إعلان

المعاني الكامنة في سيرة الضاحك الباكي "نجيب الريحاني"

د. عمار علي حسن

المعاني الكامنة في سيرة الضاحك الباكي "نجيب الريحاني"

د. عمار علي حسن
09:00 م الأربعاء 20 ديسمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لم يمت الفنان الكبير نجيب الريحاني عام 1949 بل عاش إلى الآن، ذهب جسده وبقي فنه، ثم أخيرًا ظهرت سيرته المكتملة عن "دار بتانة" بالقاهرة، فمن عثر عليها، وقال إن سيرته التي نشرت من قبل كانت ناقصة، وهو الشاعر والمؤرخ الأدبي الأستاذ شعبان يوسف، يتهم "دار الهلال" بأنها حذفت أشياء إيجابية عن "الملك فاروق" من تلك السيرة، بعد قيام "ثورة يوليو" 1952، وحديثها البائد عن "العهد البائد" بشخوصه وأفكاره ومقتنياته.

المهم أن السيرة الآن باتت بين أيدينا، وهي لواحد من عمالقة التمثيل في العالم العربي، مسبوقة بدراسة مستفيضة لشعبان يوسف، وملحوقة بعدد وافر من المقالات التي كتبت عن الريحاني للكبار من أمثال عباس العقاد، ويحيي حقي، ونعمان عاشور، ومحمد تيمور، وزكي طليمات، وصلاح عبدالصبور، وسعد الدين وهبة، وسعد أردش، وأحمد عباس صالح.

انبرى يوسف في دراسته تلك للدفاع عن الريحاني، وردّ عنه كل قدح فيه، وفسر أسبابه، واستشهد في هذا بما ذكره عنه من قدروا له دوره الفني، ورثوه حين غاب، ثم أضاف إليه ما وجده في أرشيف هذه الفترة من كتابات عن الفن والثقافة والسياسة والمجتمع، ومن قريحته كناقد أدبي.

قرأت هذه السيرة وما سبقها ولحقها، ودار في رأسي سؤال: لماذا كتب الريحاني سيرته؟ وظني أنه فعل هذا لأسباب، ليست بخافية على كثيرين، أولها شعوره بدنو الأجل، إذ شرع فيها بينما كانت صحته تعتل وهو يمضي في الثامنة والخمسين من عمره، وكانت علّته مضنية إلى درجة أن الأطباء نصحوه بألا يقف مرة ثانية على خشبة المسرح، أو أمام الكاميرا، لكنه خالفهم في هذا، وكأنه يردد ما قاله نجيب محفوظ فيما بعد ناظرّا إلى قلبه الذي أتبعه الهوى: "والله ما أسقمني إلا الشفاء".

والسبب الثاني، هو اعتزاز الريحاني بدوره في الحياة عمومًا، وفي فن التمثيل خصوصًا، فهو واحد من المؤسسين الكبار، أعطى الفن عمره وأخذ منه الذيوع والمجد والمال، الذي كان لا يستقر في جيبه طويلا، فظل يتقلب بين عيشين متناقضين: ملك متوّج، وشحاذ بائس.

السبب الثالث، هو حدس الريحاني الذي كان يدرك، على ما يبدو، أن المسرح سيضيع، وهو ما جرى بالفعل، فقد بقيت أفلام السينما، وقديمها يعاني الآن من عطب ويحتاج إلى ترميم للصوت والصورة. أما المسرح القديم فلم يتم تصويره إلا بعد ظهور التليفزيون في مصر، وهذا كان بعد رحيل الريحاني بسنوات، وبمرور الوقت بات المسرح الجديد نفسه يعاني من إهمال، فمن يكتب مسرحية لا يجد من ينشرها، وإذا رزق النص بمن يقوم بتمثيله فإن أغلب العروض ما إن تبدأ حتى تنتهي، لأن الجمهور تغيرت وجهته.

والسبب الرابع، أن الريحاني كان يشعر أنه شخصية خلافية، فهناك من يرفعه إلى عنان السماء، وهناك من يرميه إلى أسفل سافلين، فرأى أن يفصل هو بين الفريقين بكتابة سيرته، ليروي عن نفسه، ولا يترك هذا لغيره.
والخامس، هو أن الريحاني أراد أن يُسرِّي عن نفسه بعد أن تدهورت صحته ولم يعد قادرًا على الاستمرار في فنه، وربما رأى في كتابة مثل هذا النص ما يعوّض الغياب عن خشبة المسرح وشاشة السينما. والسبب السادس هو رغبة الريحاني في أن يبدي عرفانًا شديدًا لمن ساهموا في صناعته كفنان، ويبدي غُبنًا من أولئك الذين أرادوا أن يعرقلوا مسيرته.

صاغ الريحاني مذكراته بلغة شفاهية أو محكية فبدا وكأنه يسامر القارئ، وهي مسألة يعرفها من عاصروا مسرح الريحاني أو شاهدوا أفلامه، إذ بدا لي أنا شخصيًا كقارئ أن الريحاني يجلس إلى جانبي، وكل حرف مكتوب في تلك السيرة تخيلته منطوقًا بلسان كاتبها، وبطريقته الساخرة، التي يمتزج فيها الضحك بالبكاء، لاسيما أن الكاتب تحدث بضمير "الأنا"، الحميم في كتابة السير الذاتية، وأعطانا مقاطع صغيرة متتالية، أو دفقات محكية بسيطة، منشغلًا فقط بالفن وما يتعلق به، ومبتعًدا إلى حد كبير عن ذكر السياق السياسي ـ الاجتماعي الذي كان يحيط به.

وتضمنت مذكرات الريحاني أشياء عن تطور المسرح المصري، وبداية ظهور السينما والمخاوف التي كانت تنتاب الواقفين على خشبات المسرح من الوقوف أمام أضواء الكاميرات، ثم علاقة الفن المصري بالعربي، وما لعبه عرب المهجر من دور فني في بلاد الغربة، وكذلك بعض ما يدور في مجتمع أهل الفن.

وهناك الكثير من الأشياء المضمرة في هذه السيرة، والمعاني الكامنة في سطورها، والتي من الممكن أن تفيد من يقرؤها. أولها أن يسعى الإنسان خلف الهدف الذي يحلم به، ويتخفف من كل ما يعيقه، ويمتلك في هذا روحًا متمردة، فالريحاني تمرّد على الوظيفة براتبها المضمون، وتسلسلها المأمون، وذهب إلى الفن خالي الوفاض، لا يعرف كيف يدبّر قوت يومه، ولأنه أخلص لحلمه فقد نال ما يريد.

والمعنى الثاني هو أن يوقن الذاهب إلى هدفه أن الحياة فيها الكثير من التعرجات، وأنها تمضي بين صعود وهبوط، وقيام وقعود، وغفوة ويقظة، والمهم ألا ييأس الإنسان في لحظات الهبوط والقعود والغفوة. فحياة الريحاني مضت على هذا المنوال، من نجاح مبهر، إلى فشل ذريع، ثم نجاح جديد، لكن الستار أُسدل على حياته بعد أن كانت أسطورته الفنية قد اكتملت.

والمعني الثالث، يخص ذلك الجدل الذي يدور عن فردية الفن وذاتيته، فهنا يعلمنا الريحاني أن تلك الذاتية ليس بوسعها أن تجور على "الجماعية"، إذ إن الفنان يتأثر بمن حوله، والممثل لا ينجح وحده، إنما حين يجد النص الجيد، والمخرج الجيد، والمصور الجيد أيضا. في الوقت ذاته يمكن أن ندرك من هذه المذكرات أن رسالة الفن هي الفن نفسه، وأن المحاولات البائسة لتحويله إلى وعظ أو منشور أو أيديولوجيا تضر دوره، وتطفئ بريقه، وتُذهب عنه الإبداع والاختلاق.

أما الرابع فيتعلق بدور السلطة في حياة الفن، وهي متنوعة بين سلطة سياسية ودينية واجتماعية، والأولى والثانية أخف وطأة من الثالثة، فالريحاني لم يُضنه نقد السلطة السياسية له، متمثلة بالأساس في الملك عبدالله، عاهل الأردن الأسبق الذي لم يرُق له عرض للريحاني في عمَّان، ولا باتهام السلطة له في مصر بأنه ينتصر في إحدى مسرحياته للاستعمار الإنجليزي، وهي مسألة نفاها الريحاني تمامًا، ولم تُضْنه السلطة الدينية حين غضب الأزهر والكنيسة والمعبد اليهودي عليه وقت عرض مسرحية (حسن ومرقص وكوهين) لكن أضناه غضب الجمهور منه أحيانًا، حين تم اتهامه بالإسفاف والسخرية من "ابن البلد" لاسيما مع مسرحياته عن "كشكش بيه عمدة كفر البلاص".

والخامس يرتبط بعلاقة الفن بالصحافة، وكيف يمكن للأخيرة أن تلعب دورا كبيرا من خلال النقد الأمين والخلاق في تطوير الفن، والعكس صحيح. وهو القديم المتجدد، يتمثل في "الملكية الفكرية"، فقد وجد الريحاني من يقلدون الشخصية التي اخترعها وهي "كشكش بيه" في لبنان والمهجر وحتى في سوق روض الفرج، وكل مقلد كان يزعم أنه الأصل، وأن الريحاني هو من يقلده.

والسادس، هو ما تعطيه المنافسة الشريفة للفن من قدرة على التطور والتجدد المستمرين، وهي مسألة ظهرت من خلال التنافس الشديد بين الريحاني وعلي الكسار، وكيف كان كل منهما يرد على الآخر بمسرحية جديدة يتابعها الجمهور في شغف.

أما السابع فيخص روح مصر، التي اعتادت دومًا احتضان الغريب، ومنحه الفرصة كاملة، فالريحاني تعود جذوره إلى العراق، لكن المصريين تعاملوا معه دومًا على أنه من غرس أرض النيل.

مات الريحاني، الذي طالما أضحكنا وهو يخفي عنا دموعه الدفينة قبل قيام ثورة يوليو بثلاث سنوات، وقد يكون مات في الوقت المناسب، فربما لو امتد به الأجل لطلب منه أن يخصص مسرحياته لخدمة توجهات ضباط يوليو السياسية، وهو ما وجد غيره نفسه مضطرًا إلى التساوق معها وهو مرغم.​

إعلان

إعلان

إعلان