إعلان

“يا حمام بتنوَّح ليه” (٤): المجد للغناء الشعبي

“يا حمام بتنوَّح ليه” (٤): المجد للغناء الشعبي

ياسر الزيات
08:56 م الأربعاء 23 أغسطس 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ما أوردْتُ ذِكْرَ محمد منير في مقالاتي السابقة عن المطرب الراحل محمد حمام، إلا لأقول إنَّ ظهور منير وثبات شهرته، طوال سنوات، لم يأتِ من فراغ، وما ذكرتُ ما قِيلَ عن حرْب أدارها عبد الحليم حافظ ضد المحمَّدين حمام ورشدي، إلا لأظهر سطوة التيار الغنائي الرئيسي في مصر، وهو الغناء الطربي العثمانلي، لحارسيه الفنانيْن محمد عبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ من بعده، في تراجعٍ عمَّا أسَّسه الشيْخ سيد درويش من تطوِّر وطريقٍ جديدين في الموسيقى. وغاية قَوْلي من كلِّ هذا أنَّ الموسيقى والغناء المصريين أكثر ثراءً وأكثر تنوعًا مِمّا نسمع من أغانٍ أو موسيقى، لكن أكثرَنا يجْهل ذلك، أو يستجيب لسطوة التيَّار الرئيسي الذي أوصلنا في النهاية إلى أن يكون عمرو دياب هو النجم الأوَّل في الغناء، بموسيقاه المكررة، وكلمات أغانيه الفقيرة والركيكة.

ونظرة إلى خريطة الغناء الشعبي المصري تكشف لنا أنَّ لديْنا ثراءً وتنوعًا غير محدودين، ولكن سطوة ما نستمع إليه في الإذاعات ومحطات التليفزيون تحجب عنّا هذا الكنز من الموسيقى والغناء المميزين. وكل محافظة في مصر تقريبا لها تراثها الموسيقي المميز، لكن هذا التراث آخذٌ في الانقراض بكل أسف. تبدَّلتْ أغاني الأفراح، فانقرضتْ الأغاني الأصلية، أو كادت، لصالح “الديجيهات” وأغاني عمرو دياب وإيهاب توفيق، حتّى وصلتْ الآن إلى ما يُسمَّى بـ”المهرجانات”. وكانت لكل محافظة أغانٍ مميزةٌ للأفراح، تنبع من بيئتها ولهْجَتها واحتياجاتها من هذه الأغاني. وفي مصر تختلف أغاني المناطق الساحلية كثيرًا عن أغاني مدن القناة، بطبيعة الحال، باختلاف الوظائف التي يعمل بها أهل كل منطقة. في السَّواحل، حيث كانت الأغلبية تعمل في الصيد، ويغيب الصيادون كثيرًا عن أُسَرِهم، تجد أغاني مليئة بالشوق والحنين والإيمان بالرزق، وهي ثيمات استلهمها العبقري محمد فوزي، ومن كتب له أغنيتيه: “أي والله، وحشونا الحبايب”، و”الشوق”. وفي مدن القناة تجد السمسمية، التي تمتد كآلة، إلى آلة الطنبورة النوبية، وتجد في موسيقاها خليطًا غريبًا بين الموسيقى النوبية والصعيدية والساحلية. وفي الدلتا تغلب أغاني الحصاد، والإنشاد الديني. وفي الصحراء، شرقيّها وغربيّها، تستمع إلى أغانٍ ذاتَ إيقاعٍ سريعٍ، تختلط بمواويل حادَّة وممتدَّة كأنَّها نوعٌ من النداء، مع آلات موسيقيَّة محدودة تُعوضها صفقات أكفَّ المُتسامرين وأصوات غنائهم المجروح.

وإذا أخذتك معي إلى الصعيد، ستكتشف من الغناء ما قد يذهلك تنوعه. ففي المنيا وأسيوط مثلًا، ينتشر الإنشاد الديني، ومنهما جاء أشهر المنشدين مثل ياسين التهامي ومحمد العجوز، اللذيْن كانا يُغنِّيان تحت بيتي أحيانا في طما، حيث ولدت، وتُعلق ميكروفوناتُهما في بلكونة منزلِنا. وطما هي المركز الشمالي الأول في محافظة سوهاج، التي تتميز بتنوع موسيقي مدهش. في سوهاج مثلا، توجد قرية بنجا التابعة لمركز طهطا، وفيها موسيقى لا توجد في سواها، تعتمد على المزمار والطبل البلدي، وتُسمّى موسيقى “البناجوة”. وفي جنوب سوهاج وشمال قنا، ينتشر المربع، وهو مبارزة غنائية ارتجالية بين شاعريْن مُغنييْن، يغلب عليها الهجاء أو التفاخر، وتعود أصولها إلى مربَّعات ابن عروس. أما في جنوب قنا امتدادًا إلى شمال أسوان، فتجد أغاني الكفّ والنميم، المنتشرة بين عرب أسوان، ولها أهلها ونجومها. ويمتد بك الطريق الموسيقي حتى تصل إلى الموسيقى النوبية بفرعيها الكنزي والفيجيكي.

أي تنوّع ذلك الذي قضى عليه التيّار الغنائيّ الرئيسيّ في مصر؟ ألم يكنْ من الأولى التركيز على هذا التنوُّع الموسيقي، الذي كان بالإمكان أن يُصبح تنوّعًا ثقافيًّا شاملًا، ويُوسِّع من آفاقنا، ويجعلنا نبتهج باختلافاتنا، ويُعلِّمنا أن نحْترم الآخر، بدلًا من حالة الاستقطاب التي نعيشُها، وتُهدد وجودَنا؟

إعلان