إعلان

صفحة بيضاء

صفحة بيضاء

ياسر الزيات
10:14 م الأربعاء 10 يناير 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

هذه الصفحة البيضاء هي ما يجب أن يلتئم، لكي يصبح مقالًا. وهذه الصفحة البيضاء هي الرعب الحقيقي بالنسبة لكاتب، الرعب المتكرر الذي يجب أن يواجهه في كل مرة، وينجو منه مؤقتًا، في انتظار صفحة بيضاء جديدة، ورعب جديد.

في 18 سبتمبر المقبل، أُكمل ثلاثين عامًا في مهنة الصحافة، وهذا يعني أنني قضيت ثلاثين عامًا في الكتابة الاحترافية، سبقتها خمسة أعوام على الأقل من كتابة الهواة، ولكن كل هذه السنوات لم تجعلني محصنًا ضد رعب الصفحات البيضاء.

يحدث الأمر في الكتابة كما يحدث في الحياة: البداية لا شيء، ثم تحدث معجزة، تجعل من هذا اللا شيء شيئًا. يلتقي شخصان في الحياة، ويحدث انجذاب ما، قد يؤدي إلى ارتباط طويل، يتقاربان خلاله نفسيًا وبيولوجيًا، فتولد نقطة تختبئ في رحم. تكبر النقطة، حتى يضيق بها محيطها، وتحتاج للتحرر من سجن الرحم، فتولد في سجن الحياة. وفي سجن الحياة، تصبح النقطة كائنًا يكبر ويكبر، حتى تضيق به الحياة، فيحتاج إلى التحرر منها، فيولد مجددًا في سجن الموت. وهكذا تدور الدائرة.

فكرة الحياة هي فكرة مكررة عند جميع الكائنات، ولو تأملتها لوجدت أن الكون كله يحاكيها بالطريقة نفسها. يبدأ الأمر من اللا شيء، حتى يضيق اللا شيء هذا بنفسه، ويثقل على ذاته، فينفجر انفجارًا كونيًا كبيرًا، ويتشظى. وفي التشظي، تتباعد الأجزاء حتى يصبح كل جزء كائنًا بذاته في ذاته، وقد يحدث أن يصطدم بكائن آخر، أو لا يحدث، فتتغير خواصه، وقد يؤدي الاصطدام إلى ميلاد كائن جديد، أو إلى موت كائنين قديمين، أو إلى الحالين. يتمدد الكون ويتسع، ويستمر في التمدد والاتساع، حتى يسقط في ثقب أسود كثيف، يمتصه ليعيد ولادته من جديد، كونًا جديدًا، وهكذا تسقط الحياة في فخ التكرار.

تنظر إلى الكائن البشري، مثالًا، فترى جلده رطبًا عند الولادة، مشدودًا، ونضرًا، وتراه يحبو، ثم يمشي، ثم يتعلم، ويعمل، ويتزوج، ويشيخ، ثم يأخذ جلده في الانكماش، إيذانًا ببدء عملية من الموت قد تطول. وهذه الشيخوخة هي ذاتها شيخوخة الكون في صورة الإنسان. وفي موته، تتحلل مادة الإنسان إلى العناصر الكيميائية الأولى، التي كوّنته، وتذوب في التراب، لكنها لا تفنى، بل تولد من جديد في كائنات كثيرة أخرى، إذ تصبح أحيانًا جزءًا من شجرة، والشجرة تصبح طعامًا لحيوان، والحيوان يصبح طعامًا لإنسان يموت ويتحلل، لتعيد دائرة الحياة ولادة ذاتها من جديد.

وكما يصرخ الإنسان عند الولادة، يحتاج الكاتب للصراخ- أحيانًا- عندما يكتب، يحتاج للفت الانتباه إلى وجوده، لعل قارئًا ما يشاركه الأحاسيس نفسها والرؤى نفسها، فيشعر الكاتب بأنه ليس وحده، ويشعر القارئ بأن هناك من يعيش ما يعيشه، وبأن الحياة ليست سلسلة من الأحداث الغريبة التي تحدث لكل كائن وحده، بمعزل عن الآخر. نحن نكتب لأننا نريد أن نجد من يقرؤنا، ونكتب لأن لدينا فيضًا، لا نقدر على احتماله وحدنا، من المشاعر والأفكار والأخطاء، ونريد أن نجد من يطمئننا إلى أننا موجودون حقًا، ولسنا أبطالًا في قصة يحكيها كائن لكائن آخر، أو سطورًا في كتاب في يد مسافر في قطار. نحن نكتب لأننا نحتاج إلى "الونس".

 

إعلان