إعلان

مدارات الغناء وروائح الشجن

مدارات الغناء وروائح الشجن

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 26 أكتوبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

نعرف أنفسنا بأشيائنا وبذكرياتنا، وبتلك التفاصيل التي تصنع شكل الأيام وترتب اختلافها، والغناء يقع تماما في تلك الدائرة، مجال رواية التفاصيل والأحداث بشكل فني يمنحها بقاء ويصبغها بهجة وربما شجنا معا، وحيث لم يعد الغناء مجرد كلمات عابرة تمضي في فضاء مرتحل يحملها بلا إياب، ففي فترات ارتقاء الفنون ومنها الغناء والموسيقى تصبح تعبيرا فنيا عما أدركه البشر وعاشوا معه وأيضا ألفوه.

وتعبر الأعمال الفنية هكذا في فترات ازدهار الفنون والثقافات ورقيها بل وتؤرخ – من بين مصادر كثيرة – لتفاصيل الحياة وأوجه الأحوال والمعايش، فالغناء يرافق أفراح الناس وشجونهم، يحمل رايات فوزهم، وأيضا أسى حزنهم، ينثر الكثير من بهجة مغالبة الصعوبات اليومية، وعبر ألوان مختلفة تناسب واقعا ما وعصرا ما، فلكل زمن غناء ولكل غناء محبون، وتتعايش أنماط الغناء المختلفة في المجتمعات تعبيرا عن ثقافات فرعية تتأسس على خيط مشترك، هو المكان والزمان والبشر الذين يعيشون ويغنون.

وعند الحديث عن الغناء والفن تتعدد المشاهد التي تطل، فالأغنيات كانت وما زالت جزءا من تاريخ الحياة، تصنع تفاصيل متنوعة وتثبتها، فإذا مرت الأوقات واستمعت مصادفة لأغنية أحببتها وعرفتها في زمن قد يبدو الآن قديما، فإنك تستعيد معها كل تلك الروائح وتلك التفاصيل التي مرت، بل إنها تستحضر المواقف ووجوه البشر التي ربما غابت أو وضعتها الأيام والسنوات في ركن قصي من الذاكرة فيحضر كل ذلك مكتملا كأنه لحظة البدء.

وتتعدد حكايات الغناء العظيم، وتظل بعض الجمل والألحان في النفس لا تغيب، من يمكنه أن يتناسى بعض الأبيات الفصيحة المؤثرة في غناء السيدة أم كلثوم؟؛ أم كلثوم التي عرفناها وعشنا أيام الصبا معها عبر الإذاعة التي تحمل اسمها، حيث تطل مساء كل يوم وكأنها نشيد جميل محب تجتمع عليه كل الأذواق، فأينما مضيت داخل أرجاء مصر يصل إليك صوتها عبر إذاعتها، من مقهى تمر عليه أو عبر رجل يحمل مذياعا وقد ثبته علي دراجة أو حتي الصوت يخالط الغروب وهو ينطلق من سماعات الباص مسافرا.
الأغنيات هي أيضا حكاية الحياة حين تمضي وتترك أثرا، ولا يغادر سؤال حين تمعن في الاستماع إلى كل ذلك فتدرك حضور الشجن ظاهرا في الغناء المصري المفضل، وحضور مفردات الغياب والحنين بارزا، فيمنحك ذلك مزيدا من الأسئلة عن تلك الحالة التي تبدو "مستعذبة" من تداعي الذكريات في فن الغناء المصري الجميل، وكيف يفيض بحالات اجترار الوجوه والأشياء ومضغ الألم أحيانا علي مهل، ثم البقاء تحت ظل الغائبين فلا يبارح، وهل هي سر جماليات هذا الغناء، أم لكونه يربط نفسه بشيء عميق في مسيرة الإنسان المصري عبر رحلته الطويلة في الزمان علي ضفتي النهر.
ولا شك أن للغناء أيضا مباهجه حتي وهو يستعذب الشجن سائغا، فتطل الوجوه التي كادت تبهت فتتلاشي وسط زحام الأشياء فنستبقي ما نشاء منها ونحتفظ به كأننا نستعيد الزمان أو نمرر صوره كذاكرة فيلمية نصنع بها مونتاجا خاصا ونستخلص منها ما يصنع الابتسامة وفقط، وذلك حين يتناهى مصادفة إليك مقطع من أغنية ما.
وتظل الموسيقي عنصرا غنائيا فذا يمنح النفس بعضا من هدوء طيب، وهي وجه من وجوه الحياة الرائقة يلون حوائطها حين تصفو، وحتي يمكن القول بأن ذلك الشخص الموغل في القدم الذي صنع اختراع مزج العزف مع الكلمات والصوت العذب ليكون غناء وكما تتعارف عليه المجتمعات المعاصرة، أقول قد صنع ذلك المجهول شيئا بهيا ومضي لتطيب الأشياء من بعده، وليمنح للبشر ذاكرة الاحتفاء بمظاهر الكون غناء .. الغناء للشجر والنهر والنجوم والناس التي تحلو الحياة في وجودهم، هكذا صنع الغناء حالته وسري كما الحياة واستمر.

إعلان

إعلان

إعلان