إعلان

فهّموه ولا تحبسوه

عادل نعمان

فهّموه ولا تحبسوه

عادل نعمان
09:01 م الإثنين 03 ديسمبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لم أكن أعرف أن قطاعًا ليس بالقليل من الناس في بلادي قد اقتنصوا من النمور صفة "التنمر"، وكأنها صفة كانت تنقصهم، حتى تكتمل عندهم سيئات ما كان ضعيفًا وهزيلًا من الحيوانات الأليفة، بجانب ما يكون متوحشًا وهمجيًا من أشرسها، ولم يستكفوا من رذائل البشر ومثالبهم وعيوبهم ما يشينهم ويدنسهم، ولم يخجلهم ما استعاروه من الغدر والخسة من أحط الحيوانات وأقلها شأنا وقيمة، حتى يستعيروا من عظمائها التنمر والاستئساد، ومن أوسطهم التنطيط من القرود.

ولقد فهمت أن جريمة التنمر موازية لجريمة الاضطهاد أو العنصرية، وهو منهج أو مذهب يفرق بين الناس على أساس ديني أو عرقي، ويتعامل الكثيرون منهم مع خلق الله على أساس الجنس أو اللون، فيكيل بين الناس، ويحكم بينهم على ما وقع في نفسه من ميل أو هوى، وليس بالعدل أو بالحق، ويجور على حق من يكره ويحيد عنه، ويغدق على من يحب ويميل إليه، ولو أن التنمر أكثر إيلاما من العنصرية، لأن الخضوع والاستسلام له يكون عن اضطرار وإجبار، واستقواء على الأضعف جسديًا أو عقليًا والتغلب عليه وإيذائه دون تكافؤ، والتسلط على الأدنى والأقل قوة.

وحكاية مدرس دمياط وبسملة ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، فربما يكون ما فعله من تنمر بطفلة واستئساده عليها يجرى بأسرع منه في مدرسة أخرى الآن، أو يسبقه في جهة حكومية أو مستشفى، أو يسارعه في شارع اليوم وغدا، ويمارس تحت سمع وبصر الناس دون رفض، بل هو مبارك من البعض أحيانا، وهي ثقافة شعب، وصورة من صور التشفي في خلق الله، ولا أدري من أين جاءتنا هذه الثقافة الغريبة، وظهرت فجأة بين أظهارنا؟

وحكاية بسملة نسمعها، ونراها بأم أعيننا كل يوم، ضد النساء والأطفال والمعاقين وأصحاب المحن والاختبار.

من منا لم يكن يوما مصدر ألم أحد من هؤلاء، أو سببا في وجيعته، أو كان سببا في أذى من هم أحق الناس بالرحمة والعطف؟

بسملة وغيرها ضحايا فئة من الشعب فقدت بوصلة الرحمة والتعاطف والإنسانية، وهذا المدرس من بين صفوفها، وأزعم أنه لم يعرف، ولم يقرأ عن العنصرية سطرًا واحدًا ، أو علموه في وزارته أنها جريمة إنسانية، وأن ما اقترفه يصنف في بلاد أخرى بأحط أنواع العلاقات البشرية، وصاحبها يمنع من التعامل مع الجمهور، بل يفصل من عمله، والفرق بيننا وبين غيرنا أنهم يعرفون أن هذه جريمة في حق الإنسانية، ونحن نجهل هذا الأمر، ويعرفون الرحمة والتراحم بينهم، ونحن لا نعرفها، وهذه القيم قد ترسخت في أعماقهم، وتمارس ممارسة طبيعية دون استدعاء في وقت، أو سهو أو نسيان في آخر، كآداب الحوار والخلاف في الرأي، وكلها آداب إنسانية تدور مع حياة الناس بسهولة ويسر، فلا يرى بعينه في الآخر غير ما يراه في نفسه، ولا يشعر بين الجميع بالفرقة أو الخلاف، ولا يحسب نفسه يوما أرفع أو أزكى أو أعلى منهم، ولا يعتبر نفسه سيدا عليها أو عليهم، كما أجاز له فقهاؤه ومشايخه هذا، فرسخ هذا في أعماقه، فهان عليه الجميع، واستصغر شأنهم، واحتقر وحط من مشاعرهم.

ولا أتصور أن وزارة التربية والتعليم لا تضم بين فصولها غيره، فهي زاخرة وعامرة بغيره ككل قطاعات الدولة ومكاتبها ودواوينها. وليس حبس المدرس هو الحل، وإلا حاصروا واحبسوا كل المتنمرين بالناس في بلادي، واقبضوا عليهم، ساعتها سنعرف حجم المشكلة وأبعادها، إذا رأينا السجون عامرة وزاخرة بكل أصناف البشر وأعمارهم واختلاف ثقافتهم وعلمهم، وستعلمون حجم ما يعانيه الناس من النساء والأطفال والمعاقين وذوى الحاجات، وتلمسون جيدا إلى أي درجة في سلم الإنسانية قد نزلنا، وكم صعد غيرنا، وارتقى، حين نجد بكل أسف أننا في بداية السلم وغيرنا قد ارتقى وعلا شأنه.

اشرحوا للناس، أولًا، أن فيكم وبينكم من يتألم من هذا التنمر، وهذه العنصرية، وهذه التفرقة. فهّموهم أن الناس سواسية، لا فرق بينهم على أساس الدين أو العقيدة أو الجنس أو اللون، وأن غطاء الإنسانية يلتحف به كل هؤلاء.

علموهم أن الرحمة فوق العدل، وأن الإنسانية قيمة يرتقي لها من كان قلبه خاليا من الكره والضغينة، وكل ما أنت فيه من نعم ليس من فضلك، وكل ما هو فيه من ابتلاء ليس من صنعه، فربما يكون ما فيه يوما قريبا منك، أو بين أحضانك وعلى سمعك وبصرك، فحاسب وتحسس، وتلمس، وقاوم رغبتك في التنمر، وفي الاستقواء على الضعيف، فربما يوما يصيبك سهمه، وراجع نفسك كلما هممت بأذى الغير من هؤلاء، وجرب جبر خاطرهم، فسترى كم راقت نفسك، وكم سمت وارتفعت إلى عنان السماء، وكم سعدت إذا شكروا، وامتنوا لصنيعك وهو مكسب لو تعلمون عظيم.

الحبس ليس الآن، بل حين يرى المجتمع كله أن ما فعله هذا المدرس جريمة، ساعتها سنعرف أن المجتمع كله قد ارتقى، وصعد كما صعد غيرنا، ساعتها احبسوه هو وغيره حتى لو ملأتم السجون؛ فسيكون صاحب الجريمة قد عرفها، وشعر بها، وعلم.

إعلان