إعلان

"تويتر وفيسبوك" وأخواتهما.. أداة للتحرر أم لفرض القيود؟

د. عمار علي حسن

"تويتر وفيسبوك" وأخواتهما.. أداة للتحرر أم لفرض القيود؟

د. عمار علي حسن
09:00 م الأربعاء 05 ديسمبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ألغى الإعلام الجديد الحاجز أو الفاصل بين الخبر والرأي، والمعلومة والإجراء، وأدى إلى تلاشى الوسيط بين المرسل والمتلقي، وجعلهما يحتكّان صوتا لصوت، مختزلًا زمن التفاعل بينهما، وفاتحًا بابًا للتفاعل اللحظي، حيث يمكن لكليهما أن يعمق النقاش، ويمارس تغذية ارتجاعية لا حدود لها، لا سيما حيال القضايا الجديدة والمهمة والأحداث الساخنة التي تتدفق بلا هوادة.

ومثل هذا الوضع يثير تساؤلًا مهمًا: هل مثل هذا النوع من الإعلام يعزز التحرر، أم يشدد القيود؟

ابتداءً فإن الإعلام الجديد يتمتع بفائض من الحرية لا تعرفه الليبرالية في تطبيقاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهي ربما تمثل المسافة نفسها التي تفصل بين "القول" و"الفعل" أو بين "التفكير" و"الحركة" في أي مجتمع، بما في ذلك المجتمعات الديمقراطية، فقد يتاح لفرد أن يقول ما يشاء على مواقع التواصل الاجتماعي، لكنه لن يكون ممكنًا من تطبيق أقواله في الواقع المعيش، لأنها ستتصادم مع إرادات آخرين، على رأسهم من يجلسون في كراسي السلطة السياسية.

لقد أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي أساسية بالنسبة إلى الحملات الانتخابية في الأنظمة الديمقراطية المتقدمة والناشئة على حد سواء. وصنع الهاتف المحمول تحولا في السياسة من خلال تمكين كثيرين من رصد ومتابعة الانتخابات بمزيد من الكفاءة والشمول، وتعزيز الشفافية، وتقوية الرقابة والمساءلة المتعلقة بالميزانية العامة للدولة، وإحاطة المواطنين بجهود مكافحة الفساد، وانتهاكات حقوق الإنسان، ورسم خريطة لتلك الانتهاكات.

وحتى في الأنظمة المستبدة والشمولية والمنغلقة سياسيًا أعطت مواقع التواصل الاجتماعي المواطنين قدرة على الالتفاف والتحايل على السلطة، ففي الصين مثلا يتجنب مواطنو الإنترنت الرقابة الصارمة التي تفرضها الدولة، ويخترقون جدران السرية أحيانًا، ليصلوا إلى معلومات حساسة عن المسؤولين وما يقف خلف القرارات المهمة، ويتلاعبون بالحروف والرموز، ويوظفون أشكالًا من اللغة المضمرة والمستترة والاستعارات وألوانًا أخرى من البلاغة، وتسعفهم أحيانا بعض الصور والمضامين المستمدة من الموروث الشعبي، ولا سيما النّكات ذات الطابع السياسي والأغاني- في السخرية من الحزب الحاكم ورجاله ونقدهم وتعريتهم، إذا لزم الأمر.

لا يعني هذا أن الإعلام الجديد بوسعه أن يمارس فائض الحرية في كل مكان وزمان، فالسلطات المستبدة والشمولية، وحتى في بعض الدول الديمقراطية تتدخل لتقليص هذا الفائض، وضغطه ليتوجه من مد إلى جزر، ثم يغيض ليصبح في بعض المجتمعات أقل من رغبة الناس المتداولين على مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك بفعل قوانين تُفرض، وإجراءات قاسية للرقابة والتحكم يتم وضعها.

كما أن أداء الإعلام قد يضر بالديمقراطية، حين يخفق في القيام بمهمة التنوير، لعجزه عن تقديم الحقيقة بموضوعية، نظرا لأنها تتطلب دقة وتمحيصا وقدرة على الفهم والتفسير لتجاوز اتصافها بالذاتية، بينما يجد الإعلامي نفسه في سباق مع الزمن، ليقدم إلى الجمهور خدمة الإبلاغ في أسرع وقت، وإلا انصرف عنه، ولذا لن يكون بمُكنته أن يحصل على صورة كاملة لأي حدث أو واقعة، وقد يجد نفسه مضطرا إلى إتمام الناقص منه بالتخمين والكذب والتحايل، عبر سلسلة من الومضات والدفقات واللمحات. ومثل هذا الوضع يضر الديمقراطية التي تستوجب سوقًا حرة للأفكار، تتواجه فيها الآراء، وتتقارع، ويجد الجمهور الفرصة الكاملة للحكم على الصالح منها والطالح.

وما يعمق هذه النظرة أنه قد لا يوجد ما يسمى بـ "الرأي العام" وفق التصور الذي يقدمه لنا باعتباره شيئا متماسكا له قوام، وبوسعنا تصوره ودراسته على نحو دقيق. فالرأي العام هو نتاج تصارع المصالح السياسية والاقتصادية التي تعكسها وسائل الإعلام، وبذا تجعله مجرد مخرجات مشوهة ووهم كبير وحشدٍ من مستهلكي الثقافة، وليس شيئا مستقلا.

فالأنظمة التسلطية تمتلك تقنيات المراقبة والتحكم في الإنترنت، التي ترصد وتشكل بصورة متزايدة نشاط المستخدمين على الشبكة العنكبوتية، كما أنها تلجأ إلى الهجمات الإلكترونية، والتحكم في الأجهزة والشبكات لتعقب نشاط الإنترنت وإعاقته عند نقاط محددة موقعيًا، والتحكم في أسماء النطاقات لإزالة المواقع الشبكية غير المصرح بها، والمواقع مجهولة الهوية بصفة خاصة، والفصل والتقييد المحلي للإنترنت في أثناء لحظات الاحتجاج، والمراقبة المشددة لمستخدميه لاسيما عبر الأجهزة المحمولة، وكذلك الجهد الذي يبذل مسبقا لإدارة الحوارات في العالم الافتراضي، واستباق أي نشاط رقمي ترى الأنظمة التسلطية أنه يهددها، ثم تطهيره أو تدميره ومعاقبته.

وتتعدد أدوات النظم التسلطية في توظيف الإنترنت بغية تقييد الحريات ومنها: سن قوانين وتشريعات للتحكم في الإنترنت، وشراء المعلومات، وإطلاق الميليشيات الإلكترونية "الذباب" التي تساند هذه النظم، واستعمال وسائل ماكرة في تطوير فنون مظلمة للاختراق الاجتماعي للشبكات الإلكترونية بواسطة المخربين من أجل إيجاد انشقاقات مصطنعة تصيب التماسك الاجتماعي، والاستفادة من الجهد التخريبي لصعاليك الإنترنت "الهاكرز" للاستيلاء على حسابات بعض المعارضين، وإطلاق برمجيات خبيثة أو شريرة للتحكم في حواسيب مستخدمين غير منتبهين لأغراض الجريمة أو المراقبة أو التخريب.

فشبكة الإنترنت تعتمد على خطوط الهاتف، لتبدو "أشبه بالنظام العصبي الحسي للجسم البشري، إذ يمكنك أن تحقنه بالسم، بحيث تدمر الجزء الأساسي من النظام، مثل الدماغ، وبالطريقة نفسها تماما، من المحتمل أن تطلق جهات عديمة الضمير ومجردة من المبادئ فيروسات للقيام بذلك من خلال الإنترنت" كما يقول مرمادوك هسي في دراسة له عن مستقبل وسائل الإعلام.

ويتيح الإعلام الجديد تحقيق السيادة المعلوماتية التي تخدم وجهة نظر المستبدين الذين بوسعهم استغلال ما لديهم من ملاءة وقدرة مالية وتقنية كبيرة، مقارنة بالمعارضة. ويتم استعمال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات استباقيًا لتقفي أثر قادة الاحتجاجات واعتقالهم، بما يحول مواقع التواصل الاجتماعي إلى أفخاخ لاصطيادهم. وهناك كذلك نشر الشائعات كجزء من حرب نفسية وغسيل أدمغة، تشنها هذه الأنظمة لتشويه المعارضين، وتخويف الشعب، وإفقاده الثقة بنفسه، وقد يصل الأمر إلى حد القرصنة بزعم الحفاظ على الأمن القومي. ويمكن أيضا للأنظمة المستبدة أن تتعاون في تعزيز خبرة الرقابة والتحكم، من خلال ما يسمى "الاستبداد المترابط شبكيا"، حسب تعبير لاري دايموند، في مقدمة كتاب "تكنولوجيا التحرر: "وسائل الإعلام الاجتماعي والكفاح في سبيل الديمقراطية"، الذي صدرت ترجمته عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية.

وإلى جانب فتحه بابًا أوسع للاستقطاب السياسي، والسجال العقائدي، الذي يمارس فيه السب والقذف بإفراط، فإن الإعلام الجديد، يخدع كثيرين بتحقيق الرضا الزائف عن المشاركة السياسية، حيث يكتفي أغلب المتداولين على مواقع التواصل الاجتماعي بالتعبير عن مواقفهم كتابة أو بالرسوم التعبيرية والمشاهد المستعارة من الدراما والكوميكس، معتقدين أن هذا يعوض عن النزول إلى الشارع إذا كان هناك ما يستحق فعلا الاحتجاج المباشر. فالأدوات الرقمية يمكنها صرف انتباه المواطنين عن العمل السياسي عبر الترويج للترفيه الشخصي، وإضعاف المقاومة الديمقراطية من خلال منح الناس وهما يبدو آمنا، ولكنه سطحي، بأنهم يمارسون العمل السياسي، وربما لا يكونوا في حاجة ماسة إلى حيازة عضوية الأحزاب السياسية كي يحققوا هذا الهدف.

في الوقت نفسه، وفي اتجاه آخر مساند، بوسع السلطات المستبدة توظيف ميليشياتها الإلكترونية في صناعة وسوم (هاشتاج) قد تتحول إلى اتجاه دافق دافع قوي (تريند) يبين، زورًا وبهتانًا، أن الأغلبية تساندها في قراراتها وإجراءاتها.

وما يزيد الطين بلة أن جهود الدول الديمقراطية القانونية لمراقبة الجريمة والقرصنة والحرب على الإنترنت قد تصنع بيئة مواتية للحكومات التسلطية الحريصة على تمرير تدابير شبيهة ترمي إلى التضييق على الحريات السياسية. وحتى في الأنظمة الديمقراطية الليبرالية، يوجد قلق من المواطنين حيال فقدهم لخصوصيتهم باستمرار لصالح الأطراف الفاعلة الحكومية والتجارية على السواء.

كما أن الحكومات المنتخبة تقوض قواعد الليبرالية للنظام الدستوري وحقوق الإنسان في انجراف متهور من أجل التفوق التكنولوجي في الحرب على الإرهاب، والحرب على الجريمة الالكترونية، فضلا عن نشر الأفكار غير الليبرالية، التي يطلقها المتشددون الدينيون وأتباع اليمين المتطرف في الدول الغربية وغيرها. ومثل هذا الوضع يجعل بوسعنا أن نقول إنه لا توجد علاقة مباشرة مقطوع بها بين وسائل الإعلام والديمقراطية في كل الظروف والأحوال.

فضلا عن هذا، وبعيدا عن السياسة بقيمها وأفكارها وإجراءاتها، فإن ثورة الاتصالات، بقدر ما أفادت فقد حملت ضررا في ركابها، يمتثل بالأساس في الحرب الإلكترونية بما فيها سباق التسلح في الفضاء السيبري، والجريمة الإلكترونية التي تمتد إلى اختراق السجلات الطبية والمصرفية والضريبية والتجارية وغيرها، ونشر الإباحية، وتقوية النزعات الاستهلاكية، التي قد تودي بالناس إلى التشيُّؤ، والوقوع في شكل من العبودية الطوعية.

إعلان

إعلان

إعلان