إعلان

الحوكمة وملحمة أكتوبر ١٩٧٣

د. غادة موسى

الحوكمة وملحمة أكتوبر ١٩٧٣

د. غادة موسى

أستاذ مساعد - كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة 

09:00 م السبت 12 أكتوبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يقولون عنها "حرب السادس من أكتوبر"، وأقول إنها "ملحمة أكتوبر"، أو مشروع أكتوبر القومي؛ فلم تكن حرباً بل كانت عملا أدبياً وماديا ومعنوياً شاملاً. وهذا العمل توافرت فيه كل عناصر الإدارة الجيدة للحكم أو بعبارة أدق كان "عملا محوكما وبدقة متناهية، حتى قبل ظهور مفهوم الحوكمة ذاته.

وجدير بالذكر ان أبناء جيلي من الذين تراوحت أعمارهم آنذاك بين السنتين والأربع سنوات لا يتذكرون تفاصيل هذا العمل الكبير المتنوع في أبعاده، وإنما يشعرون بأهميته البالغة.

وحيث إنني أنتمي لهذا الجيل الذي لم يسعده الزمن بأن يعي- بدقة- ما حدث، فإن الوعي لديّ بقوة وعظمة هذه الملحمة يكون بسبب سياسات الحوكمة المتضمنة فيها.

فعلى مستوى الإطار الاستراتيجي والوعي بالظروف المحلية والإقليمية والدولية تعامل مفكرو ومخططو ومنفذو هذه الملحمة من منطلق وضع حلول للمخاطر المحتملة: مخاطر استهداف المدنيين في مدن خط قناة السويس. فتم نقل سكان هذه المناطق لأخرى آمنة وبعيدة عن خطوط النار. أما عن مخاطر نقص وشح المؤن والدواء، فقد كان لدي الشعب وعي بأهمية ترشيد الاستهلاك، آنذاك، مع الأخذ في الاعتبار تدهور حالة البنية التحتية من مياه وكهرباء واتصالات آنذاك. كما شهدت المرحلة تنسيقا وتكاملا بين أجهزة ومؤسسات الدولة من جانب، ومؤسسات الدولة مع منظمات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية من جانب آخر؛ فقد تم تضمين وإشراك كل الأطراف في تحقيق الإدارة الرشيدة للمرحلة.

ولم يقتصر التخطيط الاستراتيجي على مسرح العمليات العسكرية فحسب، وإنما سبقه تخطيط لمسار سير الحياة المدنية في المقام الأول. وهنا أود أن أشير إلى تكامل هذا الدور مع دور قطاعات الإعلام والفن. حيث رسما مدونة سلوك واضحة تتعلق بالتوعية حول العلاقة بين المواطن والدولة في أمر محدد، وهو توزيع الثروة المحدودة، ومساهمة الدولة والمواطن في تراكم الثروة. كما أدت الأعمال الفنية من أفلام درامية وتسجيلية وأغانٍ في ترسيخ صورة ذهنية لدى المواطن بمعايير الولاء والانتماء.

أما على مستوى إدارة الموارد البشرية، فعلى الجانب العسكري كانت هناك تدريبات وعمليات عسكرية واستخباراتية على نطاق ضيق وواسع أحيانا مما مكّن من بناء قدرات الجنود على المدى المتوسط؛ استعدادا لملحمة أكتوبر.

كما تم تغليب عنصر الكفاءة والجدارة في كافة المجالات على ما دونه، حيث لعب العلم والابتكار دورا ملحوظا في زيادة مكاسب وتطوير مخرجات المعارك الحربية لصالح الجيش المصري.

وعلى مستوى الخدمات الحكومية- وعلى الرغم من أن التقدم أو الوسائط التقنية الحديثة لتقديم الخدمات الحكومية لم تكن قد وصلت إلى المراحل المتقدمة التي نشهدها الآن- توافرت منظومة متكاملة ومحكمة لتوفير الخدمات الرئيسية من خبز وسلع تموينية تشكل الحد الأدنى للمعيشة في ظروف حرب.

وعلى جانب الإدارة المالية- على الرغم من توجيه جانب كبير من موازنة الدولة للوفاء بمتطلبات الإعداد العسكري والقتالي- وجدت سياسة لتوليد موارد محلية (تبرعات في شكل نقود أو تطوع)، وأيضاً في شكل إدارة نزيهة وجيدة للموارد المالية والعينية التي وصلت لمصر من عدد من الدول العربية الخليجية ومن العراق وشمال أفريقيا.

بعبارة أدق، توافرت كل عناصر الحكم الجيد لهذه المرحلة الدقيقة في تاريخ مصر والشعب المصري.

لكل ما سبق، فإن استدعاء هذه الملحمة بكل تفاصيلها هو مصدر إلهام وتعلُّم ليس فقط على صعيد تحقيق المزيد من الانتصارات والإنجازات، ولكن أيضاً لاستحضار السياسات والمناهج الشاملة والمتكاملة التي تم تطبيقها للحصول على النتيجة التي نزهو ونفخر بها حتى الآن وإلى الأبد.

فدرس الحوكمة هو أحد الدروس المختزنة بداخل ملحمة أكتوبر.

إعلان