إعلان

المرأة والتنمية... كيف تسهم النساء في بناء المجتمعات؟

د. عمار علي حسن

المرأة والتنمية... كيف تسهم النساء في بناء المجتمعات؟

د. عمار علي حسن
09:00 م الأربعاء 16 أكتوبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تواجه المرأة العربية في الوقت الراهن بصبر ودأب شديدين هؤلاء الذين تحولت رؤوسهم إلى سجون بشعة، ولا يرجى منهم خير، ممن ينتجون خطابا معاديا للنساء يتناقض كلية مع ما فرضه "القرآن الكريم"، ومع هذا يردده هؤلاء بجهل يحسدون عليه وهم يتوهمون أنه صحيح الدين، الذي ينظر إلى المرأة من عل، ويضعها في موضع متدن، ما أنزل الله به من سلطان.

في الحقيقة ليس التصور الديني المغلوط فحسب هو المسؤول عن هذا، فهناك تقاليد بالية تسري في أوصال مجتمع أبوي أو ذكوري، تمضي فيه المرأة حائرة بين مسارات صعبة متضاربة، فهي إن رضيت بدورها التقليدي، لا يعترف بها منطق المجتمع الصناعي الحديث الذي لا يرى عملا سوى ذلك الذي يؤجر المرء عليه، وإن دافعت عن حقها وأرادت شق طريق تليق بها، خرجت لها الرؤى الدينية الجامدة لتصدها وتردها إلى الغرف المغلقة المصمتة، وإن أرادت أن تمد خيط نضالها إلى مداه أضنتها الرؤى النسوية المتطرفة التي تضر بها إلى حد بعيد.

فوق هذه المسارات يمشي كتاب د. جمال سند السويدي الأخير الصادر بعنوان "المرأة والتنمية" والذي يبدو مؤلفه من سطره الأول منحازا لمطالب النساء العادلة، ومؤمنا بأن دورهن في الحياة عظيم، متكئا في هذا على تجربته مع والدته، التي تعلم منها كيف تلعب المرأة دورا مهما بوصفها نصف المجتمع، وشقيقة الرجل، بل هي أصل الحياة، ولهذا يهديها الكتاب قائلا: "إلى والدتي، رحمها الله، التي علمتني فضل المرأة على الرجل".

سرعان ما يظهر لنا سبب آخر لتأليف الكتاب، غير رد الجميل للوالدة، وهو سبب عملي، يتمثل في تعزيز دور المرأة في التنمية لا سيما بدول قليلة السكان، هي بحاجة ماسة إلى تأهيل وتعبئة مواردها البشرية لخدمة مساعيها إلى تحسين شروط الحياة لشعوبها.

لكن هل السبيل إلى تحقيق هذا الهدف ميسر في كل الأحوال؟ يجيبنا المؤلف في الفصل الأول شارحا العوائق التي تحول دون هذا، ومنها النظرة الدينية الرجعية، التي يطرحها وعاظ متكلسون، وجماعات متشددة، ونظم التعليم التي لا تزال تتعثر في تقديم رؤية أكثر انفتاحا تهيئ العقول والنفوس لتقبل ممارسة النساء لأدوار عريضة في مجتمعاتنا، والخلفيات الثقافية التي تعشش في العقل الجمعي، وتدفع في اتجاه أن تكون المرأة دائما تابعة خاضعة هاجعة، وأن تفقد استقلالها، وهنا يقول: "في الثقافة العربية يُشجع الذكور على أن يكونوا أقوياء وشجعانا، وألا يظهروا الحزن، أو يستسلموا للدموع. أما النساء فيُتوقع منهن أن يبكين، وأن يكن مطيعات".

لا يعني هذا انسياق الكاتب وراء النزعات النسوية التي تتجاوز مطالبة النساء بالاعتراف بحقوقهن إلى تحويل علاقتهن بالرجال من تكامل إلى صراع، والزعم بأن بإمكان المرأة الاستغناء التام عن الرجل، بل وإضعاف دوره الاجتماعي باعتباره عدوا، بل إن المؤلف كخبير استراتيجي يعيش في مجتمع محافظ يدين بالإسلام ويعرف قيمة الأعراف والتقاليد، أراد الانتصار لرؤية معتدلة، ترى ما بين النساء والرجال يجب أن يكون عناقا لا فراقا، واقترابا لا ابتعادا، ووصالا لا انفصالا، وتؤمن بحيوية كل دور وأهميته، وعدم أفضيلة هذا عن ذاك، فـ"هي" خلقت لتلعب دور "هي"، و"هو" خلق للعب دور "هو"، وليس لأحدهما أن يتيه على الآخر، أو يصارعه في عمى، إنما يقترب منه، ويساعده على الإسهام الخلاق في تحسين شروط الحياة.

إن الكتاب يعدد عطايا المرأة التي دخلت إلى دنيا معاصرة تطالبها بأداء أدوار جديدة، دون أن تنسى دورها التقليدي القائم منذ أول الخليقة وهو العناية بمنزلها وإدارته، وتربية أولادها ورعايتهم، ثم يطرح وصايا تنهل من الدين والأخلاق وتجارب الأمم والأعراف والتقاليد ونظم التربية والتعليم الحديثة، من شأنها أن تنهض بأوضاع المرأة في مجتمعاتنا.

إن كثيرا من النساء قد كتبن وتحدثن دفاعا عن قضيتهن، لكن الدفاع يكون أكثر تأثيرا حين يأتي من الرجال، وهي مسألة مسكوت عنها في سطور الكتاب، لكنها ظاهرة عيانا بيانا، لكل رجل يدرك مكانة المرأة في حياتنا، ويمتلك من المروءة ما يجعله يعمل دوما على الانتصار للضعيف، وإغاثة اللهفان، وإجارة المستجير والمضيوم.

وقد خصص الكاتب الفصلين الأخيرين لشرح تأثير الدين والعادات والتقاليد على المرأة الخليجية، وكذلك ما ترتبه منظومة التعليم، وسوق العمل، من أعباء على المرأة، ثم عرج على موقعها في تصور المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وممارساته الحياتية، باعتبار ما تركه من إرث لا يزال يشكل منظومة قيمية لافتة ومؤثرة لنظرة شعبه إلى النساء.

وأعتقد أنه من الضروري التفصيل في علاقة الإسلام بالمرأة، ليس اتكاء فقط على هذا الكتاب إنما أيضا على كتاب السويدي الشهير "السراب" الذي تناول فيه بعض الأفكار السلبية للجماعات والتنظيمات المتطرفة والإرهابية حيال المرأة، والتي لا علاقة لها بصحيح الإسلام أو جوهره.

فالإسلام كرم المرأة، فجاء القرآن على ذكر النساء في آيات عديدة كشركاء للرجال، وجعل إحدى سوره باسم "النساء"، وأوصى الرسول عليه الصلاة والسلام بالنساء خيرا، وتحدث المؤرخون والرواة عن أدوار عظيمة كانت تُسند إلى المرأة في صدر الإسلام وزمنه الزاهر الزاخر. رغم كل هذا ولدت في زماننا نحن جماعات وتنظيمات متطرفة وتكفيرية وإرهابية تنظر إلى المرأة باحتقار ودونية، وتتعامل معها على أنها مجرد وعاء لتفريغ شهوة الرجال وحفظ أنسالهم وأنسابهم، وتعتقد أنها ليست صالحة لشيء سوى أن تظل رهينة حبيسة بين جدران أربعة، وإن كانت هذه التنظيمات تستغل النساء في تجنيد عناصر جدد ينضمون إلى صفوفها، وعند الضرورة تدفعهن إلى ميادين القتال، وما إن تنتهي المعركة حتى تعود بهن إلى سابق الارتهان، لتظل المرأة في نظرهن مجرد عورة.

وفي الوقت الذي نعرف فيه تماما أسماء زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وأدوارهن العامة في صدر الإسلام، لا تعرف إلا قلة من أفراد جماعة الإخوان اسم زوجة مؤسسها ومرشدها الأول حسن البنا؟ بينما لم ير أحد صورتها؟ فزوجة المرشد لا أخبار عنها إلا بسيطة معزولة نادرة، وفي بيتها. ربما كانت زوجة البنا صامتة مستسلمة للدور الذي حدده لها زوجها، وربما كانت تعاتبه على قوله بأن المرأة لا يجب أن تتعلم اللغات ولا تدرس الحقوق، ولا تزاحم الرجال في سوق العمل، أو اعتقاده في أن الاختلاط بين الجنسين في أماكن التعليم والعمل يصيب الرجال بالرخاوة ويجعل المرأة تسرف في زينة تورث زوجها الإفلاس، وربما لم يعجبها تصوره بأن إعطاء المرأة حق الانتخاب يعد ثورة على الإسلام، لكننا لم نسمع أسئلتها فصوتها ظل مخنوقا تحت سطوة صراخ من يعتقدون أن صوت المرأة عورة، وجسدها فتنة، وهي صاحبة الخطيئة الكبرى في حياة البشر، وأنها بالضرورة ناقصة علم ودين.

وإذا كانت "الضرورات التي تبيح المحظورات" قد جعلت الإخوان وغيرهم من التنظيمات المتطرفة والإرهابية يعتمدون على النساء في عمليات التجنيد والتعبئة والحشد، لا سيما أيام الانتخابات، وأثناء المراوغة من أجهزة الأمن، فإن هذا لم يجعلهم يقرون بإنهاء كل تمييز ضد المرأة، أو يتفاعلون بشكل إيجابي مع الدعوات والرؤى المستنيرة التي سعت إلى إخراج المرأة المسلمة من زمن "الحرملك" إلى آفاق الدنيا الجديدة، وليس أدل على هذا من أن مكتب الإرشاد خلا طيلة عمر الجماعة من أن تحظى ولو امرأة واحدة بعضويته، وأن قسم الأخوات بالجماعة ينتهي في تسلسله القيادي بيد رجل، وأن البنا نفسه يناقض نفسه قولا وفعلا، فيقر في رسائله بمكانة المرأة في الإسلام، لكنه سرعان ما فرغ الأمر من مضمونه، حين أباح للمرأة تعلم أعمال المنزل فقط، ومنع عنها باقي العلوم إلا من شذرات منها تستفيد منها في دورها المنزلي.

وفي كتابها "مذكرات أخت سابقة: حكايتي مع الإخوان" تقول الكاتبة المنشقة عن الجماعة انتصار عبدالمنعم في معرض روايتها لتجربتها المريرة معها: "غيبوا المرأة طويلاً، وعندما فكوا الحصار الذى أحكموه حولها سمحوا لها بفرجة لا تتعدى إلقاء دروس عن الطاعة لكل ما يمت للرجل بصلة".

ولم يكن الإخوان وحدهم الذين ينظرون بدونية إلى المرأة، ويتعاملون معها على أنها موضوع للجنس، ومنبغ للغواية، بل إن الجماعات والتنظيمات التي توظف الإسلام في تحصيل السلطة السياسية وحيازة الثروة الاقتصادية سارت على الدرب نفسه، فرأينا "حزب النور" في مصر يضع وردة بدلا من صور مرشحاته على لافتات دعائية بالشوارع، وقبلها كان تنظيم "التكفير والهجرة" يقنع الفتيات المنضمات إليه بأنهن لسن سوى سلعة للمتعة، ويستعملهن في إغراء فتية بالانضمام إليه.

وإذا ذهبنا إلى أحدث التنظيمات وأشد أطوارها توحشا وهو "داعش" نجد أنه لم يرق له في أولى مراحله أن يضم نساء بين صفوفه، وإن كان قد طلب من كل متعاطفة معه أن تجلس أمام حاسوبها، وتتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، وتنقر على "الكيبورد" ما أمكنها كي تجذب للتنظيم زبائن جددًا، أو تنخرط في عملية جمع تبرعات لمن سموا أنفسهم "مجاهدين"، وحض الرجال، بل تحريضهم، على الانضمام إلى صفوفهم.

وكان "داعش" يرى، في البداية، أن النساء لا قبل لهن بالحرب، لكنه سرعان ما غير رأيه هذا، لا سيما حين تمكن من أرض شاسعة وفرض عليها سلطانه، فأطلق دعوات لاستقطاب طبيبات وممرضات ومهندسات ومدرسات، ثم مقاتلات، لهن وظيفة في القتال والعمليات الإرهابية قد لا يقوم بها رجال بالإتقان نفسه.

ومع توالي الأيام صار وجود النساء في صفوف "داعش" لافتا، وفتح بابًا عريضًا لتساؤلات حول البلاد التي انحدرن منها، وخلفياتهن الطبقية والثقافية والدينية، والأسباب التي جعلتهن يتركن بلادهن، ويحزمن أمتعتهن ذاهبات إلى أرض "داعش" التي يسكن الخطر كل شبر فيهاـ وهي مسألة تناولها كتاب "السراب" بشيء من التفصيل.

إعلان