إعلان

 أصحاب الهمم (14).. بين العبقرية والجنون"٤"

د طارق عباس

أصحاب الهمم (14).. بين العبقرية والجنون"٤"

د. طارق عباس
09:00 م الخميس 03 أكتوبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

في سنة 1888 يقرر "فان جوخ" ترك "باريس" إلى "جانوب" بفرنسا، فأقام هناك في قرية صغيرة اسمها "آرل"، وكانت غنية بكل مفردات الحب والجمال، لما حوته من شمسٍ ساطعةٍ في ليالي الشتاء وجوٍ صافٍ وسماءٍ زرقاءٍ وأشجارٍ وارفةٍ تفوق في روعة ألوانها الفضة، وصخورٍ منبثقةٍ من الأرض، كان كل ما حوله يزيده اتساقاً بروائع الانطباعيين ولوحات اليابانيين المتفردة .

بلغ "فان جوخ" –بدقة فرشاته–الحد الذي يجعل البعض يتصور أنها فرشاة آلية من صنع آلة، كان اللون الأصفر هو الغالب على لوحات "فان جوخ"، لكنه كالعادة لم يجد الانتشار المطلوب للوحاته وكالعادة استولى عليه الاكتئاب، وإذا بجدران بيته الأصفر وكأنها سجن اختاره بإرادته عاش فيه وحيدًا تائهًا لكنه سرعان ما اهتدى لفكرة لعلها ستخرجه من عزلته، وهي تحويل بيته الأصفر لمدرسة يلجأ إليها المبتدئون، وراح يبعث بالرسائل لمن كان يعرف أنهم راغبون في التعلم ممن كانوا معه في "باريس"، لكن غالبيتهم لم يتفاعل مع الدعوة، وربما لم يرد على الرسائل –أصلا- أما الشخص الوحيد الذي تجاوب معه فكان "الرسام جوجان"، والذي سبق أن تعرف عليه "فان جوخ" عن طريق أخيه "ثيو" في "باريس"، عاش "جوجان" مع "فان جوخ" في البيت الأصفر، وحولاه لمرسم يسعى كل منهما من خلاله لإبراز تميزه، إلا أن غياب الخصوصية واختلافهما الدائم فنيًا وسلوكيًا، أدى لحدوث خلافات دائمة بينهما كانت تصل في بعض الأحيان إلى حد الشجار والاشتباك بالأيدي، وفي إحداها حمل "فان جوخ" سكينا وانطلق خلف "جوجان" آملاً في الظفر به، لكن الأخير نجا بأعجوبة، فاغتاظ "فان جوخ" وعند عودته خائبًا إلى المنزل قرر قطع شحمة أذنه ليغرق في دمائه ويُغشى عليه، علم سكان القرية بالأمر فتجمعوا محاولين إنقاذه ونجحوا، لكنهم أبلغوا إحدى المصحات النفسية بما جرى فأتت إليه وأخذته للعلاج مدة شهر تقريبًا، ثم خرج، كان "فان جوخ" مصابًا بالهلوسة وكان يتصرف بطريقة تخيف الناس منه حتى أنهم أطلقوا عليه اسم مجنون الحي، وأبلغوا أخاه بخطورة ما آلت إليه أحواله، فما كان منه إلا أن أخذه ثانية إلى أحد الأديرة بقسم خاص بالمرضى النفسيين، لكن حالته النفسية لم تتحسن وزادت أزمته حتى لم يعد يعرف ماذا يمكنه أن يفعل؟ أحس "فان جوخ" أن كل شيء في حياته بات بلا جدوى؛ لذلك تخلص من لوحاته بأن بعثها جميعها لأخيه طالبًا منه أن يدمرها ويشعل النار فيها، وسط كل هذه التوترات كان كلما أفاق أو أحس بتحسن في حالته، يهرب لفرشاته ويسابق الزمن في رسم كل ما حوله "نوافذ حجرة الدير، جدرانها، الأثاث الموجود فيها الأرضية كانت أهم لوحة رسمها في تلك الفترة هي "العجوز الجالس"، وسبق أن رسمها منذ ثماني سنوات، ورأى أن إعادة رسمها وهو في حالته تلك قد يضفي عليها أبعادًا جديدة، ورؤى مغايرة، في تلك الفترة –أيضا- أبدع لوحة "بورتريه السماء الزرقاء"؛ وهي إحدى أروع لوحاته، وأظهر فيها ثلاثة أرباع جسمه بينما أخفى أذنه المشوهة .

لم يكن "ثيو" مطمئنًا على أخيه في الدير، وقرر أن يأخذه ليقيم معه على بُعد ثلاثين كيلومترًا من "باريس"، وكان البؤس واليأس والهلوسة قد تمكنوا من "فان جوخ"، وبينما كان جالسًا مع نفسه مساء يوم 28 يوليو 1890 قرر أن يتخلص من حياته، فأطلق على معدته رصاصة ولم يخبر أحدًا بما فعل، وبقي الليلة كلها يصرخ من شدة الألم، وفي اليوم التالي علم صاحب الشقة بمرض "فان جوخ"، فاتصل بأخيه وأخبره وفي الوقت نفسه اتصل بالمستشفى، فنُقِلَ إليها ليفارق الحياة بعد أن اعترف بأنه أطلق الرصاص على نفسه، وينتهي "فان جوخ" بعد أن انسحب من الدنيا؛ ليترك للبشرية إرثاً فنيًا رائعًا لا يقدر بثمن، صحيح أنه مات مجنونًا لكن عبقرية لوحاته تستعصي على فهم أعظم العقلاء .

إعلان

إعلان

إعلان