إعلان

مكافحة الفساد والمؤشرات الوطنية

د. غادة موسى

مكافحة الفساد والمؤشرات الوطنية

د. غادة موسى

أستاذ مساعد - كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة 

09:00 م السبت 05 أكتوبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يحين كل عام ومع اقتراب نهايته، وتحديدا في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) إثارة موضوع الفساد.
والسبب في ذلك يعود إلى بدء ظهور تقارير دولية تتناول جهود الدول في مكافحة الفساد، ومن أشهرها تقرير منظمة الشفافية الدولية حول مؤشر مدركات الفساد، ومؤشر دافعي الرشاوي، باعتبارهما الأكثر شهرة ومن ثم الأكثر انتشارا.

بالإضافة إلى تقارير أخرى تتعامل مع مكافحة الفساد، من خلال مؤشرات الحوكمة (الحكم الرشيد)، مثل تقرير معهد البنك الدولي حول مؤشرات الحوكمة العالمية والذي يتناول مؤشر السيطرة على الفساد ، وأيضاً تقرير مؤسسة "محمد إبراهيم"، والذي يتناول مؤشرات الحكم الجيد في دول أفريقيا جنوب الصحراء.

وهذا المقال ليس الهدف منه استعراض المؤشرات الدولية بقدر مناقشة رغبة العديد من الجهات الموقرة والباحثين في استحداث مؤشر وطني (مصري) لمكافحة الفساد.
---
وجدير بالذكر أن الحديث حول استحداث مؤشر وطني لمكافحة الفساد- وبشكل عام- قيد النقاش منذ عام ٢٠١٤ مع بداية تشكيل اللجنة الوطنية التنسيقية لمكافحة الفساد. وكان لي، آنذاك، رأي متمثل في عدم الحاجة لمؤشر وطني؛ حيث يكفي التعامل مع المؤشرات الدولية والإقليمية المتاحة، مع السعي لتحسين درجات- ومن ثم ترتيب- مصر فيها.
وظل هذا رأيي إلى وقت قريب، حتى أدركت أنه حان الوقت لنبدأ في تطوير مؤشر مصري لمكافحة الفساد.
وقد يتساءل القارئ عن سبب مراجعتي موقفي! الإجابة هي أن المؤشرات الدولية صارت "أكثر تسييسا"، وانحرف كثير منها عن العلمية؛ فكثير منها يختار موضوعا بطريقة تحكمية عمدية ويبني أطروحته الفكرية على هذا الموضوع.
الأمر الآخر هو محدودية المصادر والآراء التي تعتمد عليها تلك التقارير في بناء مؤشراتها، حيث لا يمكن بحال من الأحوال الاعتماد فقط على عدد من الآراء المحدد أصحابها سلفًا لإصدار أحكام على دولة ما مع إقصاء آراء أخرى قد لا ترى المؤسسات التي تصدر تلك التقارير أهمية أو ضرورة للاعتناء بها. وهنا تمارس تلك المؤسسات تحيزات منهجية في ذات الوقت الذي تنتقد فيه إقصاء الآراء وغياب الموضوعية!

الأمر الثالث هو أن التقارير ذاتها أصبحت تمر بما أسميه "حرب المؤشرات"، حيث تسارع كل مؤسسة إلى إصدار أكبر حجم من المؤشرات التراكمية والمعتمدة على بعضها، مع استخدام ذات المنهجية على كل الدول محل الدراسة دونما دراسة للهيكل الاجتماعي والاقتصادي لتلك الدول، ومن ثم الخروج بنتائج "مبتورة" ولا تخبرنا الكثير عن دولنا، سوى أننا "لسنا بخير"، ولكن لا تخبرنا لماذا نحن لسنا بخير!
---
وقد كان لديّ الوعي بتلك الإشكاليات، وتمت مناقشتها بشفافية مع بعض ممثلي تلك المنظمات والمؤسسات. وسعدت بالنقاش والاستجابة، ولكن مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي تسيدت تلك المؤشرات بمناهجها "المرتكبة" مشهد جهود مكافحة الفساد.
كما صارت مرجعاً لمؤسسات دولية واستثمارية عديدة في تقييمها لدولة ما. الأخطر من ذلك أنها صارت مرجعاً للدول التي تشكو منها! وكأننا سجنا أنفسنا في هذه التقارير والمؤشرات.
وفي الواقع، يبدو الحديث عن رحلة الهجرة من جزيرة المؤشرات الدولية إلى شاطئ المؤشرات الوطنية أمرا يسيرا وهينا. وأزعم أنه ليس كذلك لعدد من الأسباب أو التحديات. وهذه التحديات أريد الخروج بها من التبسيط المادي إلى الفكرة ذاتها. أي الأدوات الفكرية التي يمكن أن ترشدنا إلى طبيعة المؤشر الوطني ومقياسه.
وإنني أرى أن أول تلك التحديات هو تحدي الأساس النظري الذي نستد إليه في فهم الفساد كظاهرة، ومن ثم كيفية مكافحته والوقاية منه. فربط الفساد دوما بالعمل المادي كالرشوة والمحسوبية التي تتبدى في الحصول على ميزة أو منفعة قد يحصر أي جهد لتطوير مؤشر وطني في ظواهر مادية، ومن ثم يجرد الفساد- كظاهرة اجتماعية- من أصله الاجتماعي.

فالفساد ظاهرة اجتماعية، وتتطور بتطور المجتمع وتطور وسائله وأدواته، لذلك لا يوجد تعريف محدد له. وهو ليس بالأمر السيئ؛ لأن الظواهر الاجتماعية في تطور مستمر.
ويرتبط بالتحدي الأول التحدي الثاني حول المصطلح نفسه. فمصطلح الفساد اكتسب معناه ودلالته بما حدث في الواقع، أي بتطور التنظيمات الاجتماعية من الفرد إلى المجتمع إلى دولة المدينة إلى الدولة القومية ثم الشركات ثم التنظيمات ذات البعد الاجتماعي المدني (مؤسسات المجتمع المدني)، ثم المجتمعات الافتراضية التي خلقتها وسائل التواصل الاجتماعي. ومن ثم، فالفساد قد لا يكون ذلك المعني الذي نتصوره، فقد يكون أشياء أكثر وأعقد وأعمق.

وأضيف إلى التحدي المصطلحي تحديًا آخر وهو فهمنا للمؤشر! فالمؤشر دالة وليس مقياسًا. فعلى سبيل المثال مؤشر وجود الفساد في الثقافة قد يكون في طبيعة الأعمال الفنية والسينمائية والأغاني والمفردات اللفظية في التعاملات في المجتمع، ولكن مقياس ذلك قد يكون كميا (عدد/ حجم/ كثرة) أو كيفيًا (تدهور الذوق العام الذي يجب أيضا البحث عن مقياس مناسب لقياسه كالذوق في الملبس أو في تنظيم الشارع وتجميله).. وهكذا.
التحدي الثالث يتعلق بالمقياس. فكثير منا يستطيع أن يدرك الفساد وممارساته، ولكن لا نستطيع قياسه بدقة، لذلك أخشى أن نؤثر السلامة ونسير على خطى ما سبقنا من المؤسسات الدولية، وبدلا من قياس الفعل نقيس تصوراتنا عن هذا الفعل! فنقع في فخ قياس الإدراك. وبما أن الفساد ظاهرة اجتماعية، فتكميم الظواهر الاجتماعية يجب أن يتم بحذر، بحيث لا ندخل الناس في متاهة المعادلات الرياضية الصماء التي لا تكشف عن شيء.
التحدي الرابع الذي أظنه قد يكون من المعوقات الرئيسية على مستوى الفعل والإدارة هو التحدي المؤسسي، والذي يثير تساؤلًا حول "ملكية حوكمة مشروع المؤشرات الوطنية"، وليس ملكية الفكر والتنظير والصياغة والقياس.

بعبارة أخرى من سيكون الأب الشرعي لهذا المشروع: هل هو مركز بحثي أم جهة رسمية أم لجنة تضم خبراء وممارسين أم خليط من كل ذلك؟
وإنني على وعي- وأنا أثير هذا التحدي- بالتعقيدات التي قد تواجه مشروعًا مهامًا بهذا القدر إن لم يتم حل هذه الإشكالية.
وعليه، فمن المفيد أن نفكر في تطوير مؤشر وطني لمكافحة الفساد، ولكن لن يكون مفيدا الحديث عن ذلك دون الوعي بالتحديات السابقة وكيفية حلها.
ألا، هل بلّغت؟ اللهم فاشهد.

إعلان