إعلان

قرص بنادول.. "قصة قصيرة"

د. هشام عطية عبد المقصود

قرص بنادول.. "قصة قصيرة"

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 08 مارس 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

نظر إلى الورقة وبدأ ينقل أول أرقام الموبايل إلى شاشة هاتفه، بعد كل هذا الزمن، ماذا تريد؟ علم أنها اتصلت مرات عديدة على التليفون الأرضي لمنزل العائلة تسأل عنه وحين يبلغونها بعدم وجوده تصمت، ثم قررت أخيرا أن تعرفهم بنفسها وتطلب منهم أن يتصل بها لأمر قالت إنه مهم تماما، وتترك رقم تليفونها وتذكر اسمها كاملا باللقب وتاريخا يُذكره بها.

الورقة الآن أمامه، معرفته بها صارت مشوشة، لا يتذكر سوى القليل من لقاءات عمل متفرقة قديمة تماما، وبعد أعوام قلائل من التخرج حين عملا معا في مكتب إنتاج فني، لم تتوثق معرفتهما كثيرا سوى بما يقتضيه طابع العمل، قضى وقتًا بسيطًا هناك ثم مضى، والآن ماذا تريد؟

جرس طال وقت الرد عليه حتى جاء الصوت من بعيد شاحبا، لم ينتظر وذكر فورا اسمه الثنائي الذي تعرفه به، استعاد صوتها بعضا من قوته وقالت مباشرة: سامحني. صمت مأخوذا، مدة قصيرة حسب أنها زمن طال ولم يعرف بماذا يرد؟ كانت رأسه تعمل بسرعة تبحث عن سبب لهذا الطلب المباغت، ثم سماح بشأن ماذا؟ أضافت: ممكن تسامحني على كل شيء يا..، وذكرت اسمه الأول مجردًا من أية إضافات كأنها تعود به لزمن مضى، أحس بها حزينة، أراد أن يسألها ماذا بك؟ واعتقد أن من حقه أن يعرف يسامحها بشأن ماذا؟ لكنه خجل من كل ذلك وتركها تكمل: عايزاك تسامحني ومن فضلك.. أسمعها منك صادقة النية، لم يستطع أن يواصل الصمت، رد: "أنتِ بخير". أجابت: ممكن تقولها، فكر إن كل شيء في الحياة بعد أن يمضي يبدو هينا تمامًا، كل شيء يصير ضئيلا لا يستحق كل ما صنعته جلبة أوان حدوثه، تلك هي الأيام، قال لها: "مسامحك وربنا يشهد"، قالت: "متشكرة جدا الله يخليك" وقالت سلامًا.

أغلق الهاتف ووضعه على منضدة بعيدة، وذهب إلى المطبخ ليصنع قهوة يقلبها ساهمًا على نار ضئيلة، وحينما يرى حبيباتها البنية الغامقة تتكثف فوق السطح يعيد تقليبها، حدث نفسه متسائلا: ماذا يحدث لنا؟ ربما هكذا تنتهي كل عراكاتنا على الأشياء وكل ما تصورناه مهما وملحا وكبيرا، معارك استباحة كاملة من أجل ماذا؟ أعاد التفكير مستعيدا ما أمكن تفاصيل ما، يفكر أنه لم تكن بينهما صراعات كما لا يتذكر ضغينة مستترة لديه نحوها، ماذا حدث في ذلك التاريخ ولا يعرفه؟ انشغل كثيرا بالأمر ولم يجد إجابات.

أحس بصداع يلف رأسه، تناول قرصا من البانادول وتذكر فكرة عمل أراد تنفيذه ثم أضاعه الكسل واللا رغبة، عن كيف يعيش الإنسان عبر السنوات يدون تاريخ كل شيء، فيكدس الفلسفات والحكم والأثر، ثم يمضي لا يحمل مما كتب نتيجة في الحياة، يصنع من جديد حماقاته أنا وهي وأنتم وكل العالم، وأنه ربما التكرار مقدر هكذا، أمر يختص به البشر في الجينات ويمضي تكاثرا، أن تبدأ التجربة ونمضي بها عند ذات الحد، ما أبهى أن نكون جمادا.. هكذا قال.

لا يعلم لم أربكته الفكرة حين استدعاها وأخذ يهدئ من نفسه ويؤكد أنها لا شك إنسانة طيبة، فغيرها لا شيء يمنعهم عن مواصلة الاستباحة دون تفكير أو حتى ندم، ولم يفلت من إلحاح معرفة ما حدث ذات يوم بعيد، ويسأل ربما هي عقد الذنب التي تظهر دائما وربما يراها الناس في عمر متأخر، تحضر كلزومات للعمر فتضفي على الحياة ثقلا زائدا ليس مقدرا لهم أن يزيحوه بعيدا سوى بذلك، يسيرون بها غير ظاهرة في أرواحهم وتكبر مع الوقت حتى يصعب تجاهل ثقلها الذي يحنى الظهر ويأخذ شيئا من بريق العينين ويترك شجنا واضحا، ثم قرر أن ينسى الأمر كلية، فقد طلبت منه شيئا يستطيعه، وقد فعله مستريحا ثم لا شيء بعد ذلك، ولن يرتبك بكل ما صار ماضيًا وهامشيًا.
كانت شمس الشتاء تعلن عن يوم دافئ، يود الآن لو استطاع أن يجلس على مقهى مواجها للبحر، كان لديه ارتباطات راودته بأن إلحاحها لن يسمح بذلك، ما زال الصداع يروح ويجيء ضاغطاً، وفجأة تذكر حبات الليمون الكبيرة تزين طرف طبق السمك البيضاوي في ذلك المحل الصغير الملاصق للمقهى، عند أول منحنى عاد ليأخذ الطريق الطويل إلى حيث هناك، كانت إذاعة الأغاني تقدم وصلة الظهيرة لأم كلثوم، صار يستمع لها وهو يمضي مسرعًا.

إعلان

إعلان

إعلان