إعلان

مصر القادرة

د. أمل الجمل

مصر القادرة

د. أمل الجمل
09:00 م الإثنين 10 يونيو 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

عندما أُصيب زوجي الدكتور شريف حتاتة بغيبوبة- إثر سقوطه في الشارع القريب من البيت أثناء ممارسة رياضة المشي، التي كان يُواظب عليها- حاولنا مرتين أن نعثر على غرفة عناية مركزة بأي من المستشفيات الموثوق بها فلم نجد!

كان لا بد في كل مرة أن نلجأ إلى وساطة بعض الشخصيات حتى نعثر على سرير بالعناية المركزة. عدد المستشفيات الاستثمارية كبير، هناك ظهور جديد لمستشفيات، لكنه لا يكفي احتياجات المرضى في البلد.

الأمر لا يقتصر على المستشفيات الحكومية التي تُعد ملجأ للفقراء، فعندما مرضت أمي- بالمرض اللعين الذي نهش كبدها عن آخره- وُضعت في غرفة بها عدد كبير، وكان الأطباء بين فترة وأخرى- رغم عدم تحسنها- يُصرون على أن يكتبوا لها خروجا حتى تُتاح فرصة لإدخال مريض جديد.

تُشير إحصائيات الوضع الطبي بمصر أن عدد الأَسِرَّة المتاحة هو ٢٢ سريرا فقط لكل ألف مواطن داخل مصر، بينما المعايير الدولية تشير إلى ٩٣ سريرا لكل ألف مواطن. أما متوسط عدد أسرة الرعاية المركزة، فهو سرير واحد لكل ١٦ ألف نسمة، في حين أن المعايير الدولية تقول بضرورة توفير سرير لكل ٧٠٠٠ نسمة، كما أن المشكلة تزداد بمحافظات مصر، وخاصة الصعيد الذي لا يمتلك إلا سريرا واحدا للرعاية المركزة لكل ٢٢ ألف نسمة. هناك نقص، إذن، في الاحتياجات.

أستعيد هذا بمناسبة مروري بوعكة صحية طارئة مع الأيام الأولى لرمضان بعد يوم شاق، فكدت أفقد الوعي. يومها وأنا خلف مقود السيارة شعرت بطنين قوي في الأذن، تطور إلى شعور كأني على حافة جرف عالِ والسيارة تهبط للوراء بسرعة كبيرة. خففت من السرعة إلى أن توقفت السيارة على أحد جانبي الطريق، ثم رفعت فرامل اليد لأتأكد من أنني بالفعل أتحكم فيها. لكن الإحساس بتراجع السيارة للخلف لم يتوقف. أرحت رأسي على عجلة القيادة مُغمضة عيني، بينما أقاوم الخوفَ تُؤججه ذكريات سابقة.

القطامية كلينك ونور الشريف

أيقظني من غفوتي صوت نقرات على زجاج النافذة. سيدة ستينية ساعدتني، وطمأنتني بأنه على مسافة بسيطة يُوجد مستشفى القطامية كلينك. لم أسمع عنها من قبل، لكني أؤمن بتصاريف القدر، وبالعناية الإلهية التي تحمينا، وتحفظنا ما دام لنا أجل ونصيب.

في قلب بِنَاية تجمع بين العراقة والحداثة والألوان المريحة نفسياً تم إسعافي والتعامل معي بأسلوب راقٍ ومستوًى طبيٍ على أعلى درجة، بدءًا من الموظفين وطاقم التمريض وصولاً للأطباء، مما أعاد إليَّ تجربة علاج زوجي في ألمانيا والرعاية الفائقة التي تلقاها هناك.

فجأة تذكرت الفنان نور الشريف سمعته ذات يوم في برنامج تليفزيوني يحكي عن واقعة سقوط زوجته بوسي وانكسار يدها. حملها وجرى بها على مستشفى يحمل كلمة «فرنسي»، وهناك رفضوا أن يُدخلوا بوسي غرفة العمليات حتى يدفع نور الشريف مبلغ خمسة آلاف جنيه تحت الحساب. كان ذلك تقريبا في بداية الألفية الثانية، ربما ٢٠٠٢ أو ٢٠٠٣. فعلوا هذا معه وهو الفنان والنجم نور الشريف، يومها كان الشريف غاضباً وتساءل: «إذا فعلوا ذلك معي وأنا نور الشريف، فكيف يتصرفون مع الإنسان البسيط الغلبان؟»

نظام الكبسولة العالمي

بعد أن استعدت عافيتي شعرت بالامتنان لهؤلاء الأطباء الذين أنقذوني قبل أن يسألوني معاك فلوس ولا لأ؟ أقول لنفسي؛ البلد لسه فيها حاجات حلوة. لسه فيه ناس جواها خير.

أتذكر تعطل سيارتي في شبرا الخيمة قبل شهرين ووقوف ناس بسطاء جدا معي منهم سائق تاكسي أخذ يلف معي بين محلات قطع الغيار وبين الميكانيكي حتى تم إصلاح السيارة، أتذكر لحظة أن سألته عن سعر قطع الغيار بحذر وفجأة قال أحدهم: «يا بنتي ما تقلقيش، المهم نصلح العربية وتعرفي تمشي بها واحنا مطمئنين عليك»، "كانوا رافضين ياخدوا الفلوس إلا بعد محايلات طويلة».

ثم كتب رقم هاتفه على ورقة قائلاً: «لو تعطلت بك في الطريق كلميني، هاجيلك في أي مكان، لو وصلتِ بالسلامة قطعي الورقة». وكما عرفت حكاية السائق وأفراد عائلته، بدأت أسأل أهل المستشفى عن المشروع، وتفاصيله؛ لأنهم نموذج مُثير للفخر.

أخبروني أن المشروع وراؤه استثمار مشترك، برأس مال مصري عربي، وأن هذا المستشفى هو الأول للمجموعة داخل مصر، ضمن أربع مستشفيات يعملون على إقامتها، وأنهم أنفقوا على هذا الاستثمار حتى الآن فقط ثلاثة مليارات.

أُفكر فيما قرأت عن أسباب تراجع سعر الدولار، تعدد مصادر الدخل بالعملة الصعبة من بينها ثقة المستثمرين. الأفكار تروح وتجيء بينما أتأمل المستوى المبهر للتجهيزات الطبية بأربع غرف للعمليات الجراحية، مؤسسة بالكامل بنظام الكبسولة العالمي، كل معدات ومستلزمات غرفة العمليات الجراحية مستوردة بالكامل من إيطاليا وإسبانيا وفرنسا.

أسألهم:

- وماذا يعني «نظام الكبسولة العالمي»؟ فيأتيني الرد:

- «أي أن غرفة العمليات ليست قطعا متعددة، وميزة الكبسولة أنها تتيح السيطرة ومحاصرة البكتيريا».

ترن في أذني كلمة البكتيريا. أتذكر تجربة زوجي عندما أجرى عملية تغيير دعامة الحالب بأحد المستشفيات المصرية ثم اكتشفنا أنه أُصيب بـ«بكتيريا متعددة». هذه البكتيريا موطنها غرف العمليات. هكذا أخبرتنا الطبيبة المعالجة له في ألمانيا. دخل زوجي لعلاج مشكلة صحية فخرج بمشكلة أفدح. كانت تسبب له ألما فظيعاً، كما أن جميع أنواع المضادات الحيوية تُصبح بلا فائدة معها، بل تتحول تلك المضادات إلى قاتل لأجهزة الإنسان بسبب تأثيرهما المدمر للكلى والكبد.

ظللنا على مدار شهرين نُكافح تلك البكتيريا بأعشاب وأدوية تنتمي للطب البديل بعضها تم إحضاره من مصر. خلالها تم عزلنا نحن الاثنين، زودونا بجميع احتياجاتنا، النهارية لحماية الآخرين رغم عدم خطورتها على الكبار؛ إذ يمكن للبالغ أن يحملها، ولا يظهر عليه أعراض أو آثار، الخطورة أن حامل هذه البكتيريا بمجرد أن يتواجد- في محيطه- أي إنسان مناعته ضعيفة أو أطفال تنتقل إليهم تلك البكتيريا بسرعة فائقة.

لذلك، كان جميع المتخصصين والاستشاريين والأطباء يأتون إلى الغرفة المخصصة لنا. أحضروا لنا مطهرات وأدوية وصابون وشامبو معقم. كل شيء نلمسه نقوم بتطهيره، في محاولة لحصار البكتيريا. كنا نخشى انتقالها لمناطق أخرى بها جروح في الأذن والقدمين.

عشنا شهرين من الفزع والألم، كنا نتأرجح فيهما بين الأمل واليأس.

التأثير المتبادل

أُفكر في العدد غير القليل للشخصيات المصرية والعربية الذين التقيت بهم في مركز العلاج بألمانيا. بعضهم اضطر لأن يتوقف عن استكمال علاجه بالخارج لنضوب موارده.

الآن، في ظل وجود مثل هذه المستشفيات ستساهم تلك الاستثمارات في إحداث نقلة نوعية في الخدمات الطبية والصحية المتخصصة. ستكون قوة جذب للأشقاء العرب الذين يسافرون للعلاج في دول أجنبية، ما يعني اجتذاب دخل آخر بالعملة الصعبة لمصر.

لماذا يفضل المرضى السفر للعلاج بالخارج؟ لأن الأسعار منخفضة- خصوصا في ألمانيا- والخدمة أفضل، وقائمة الانتظار أقصر، لكن لو توفرت تلك الاحتياجات في مصر، فلماذا يسافر المريض للخارج، خصوصًا أن المستشفى متعدد التخصصات، به عدد من أَسرّة العناية المركزة يصل إلى ٢٥ سريرًا، إضافة إلى إمكانية تحويل الغرف العلاجية بمجهود بسيط إلى غرفة عناية مركزة، وأربع غرف عمليات.

أفكر في فرص العمل التي خلقها هذا المشروع، وتلك المليارات التي ضخها في السوق المصرية، والتي تتجاوز المليارات الثلاثة، أفكر في المنافسة التي سيخلقها في المجال الطبي بسبب التحدي والجودة التي فرضها، في العلاقة التبادلية بين الاستقرار الذي يجذب المستثمر وبين هذا الأخير الذي بتواجده يساعد على تأكيد الاستقرار ويُنعش الاقتصاد.

تعود بي الذاكرة لتجربة مهاتير محمد في ماليزيا. فتح الباب أمام الاستثمار الأجنبي، أتاح امتيازات لجذب المستثمرين إلى بلاده، بدأها بمشاريع للبنية التحتية الرئيسية، قام بخصخصة الشركات الحكومية فأصبحت تحقق مكاسب بعد الخسائر، اهتم بتخفيض الضرائب على الشركات وتحرير اللوائح المالية لجذب الاستثمارات الأجنبية.

فهل نحاكي في مصر بعضاً من التجربة الماليزية؟ هل نذلل العقبات أمام المستثمرين لجذبهم لهذا المجال الحيوي والخطير من أجل حياة صحية أفضل. فالتجهيزات الطبية والإمكانات المتاحة حالياً غير كافية، سواء للفقراء أو القادرين، خصوصاً في ظل العدد المحدود للمستشفيات والأَسِرَّة- سواء العادية أو بالعناية المركزة أو بالحضَّانات- والتي لا يتطابق عددها مع النسب المصرية، وعلى الأخص العالمية.

إعلان

إعلان

إعلان