إعلان

مذكرات رجائي فايد

د. جمال عبد الجواد

مذكرات رجائي فايد

د. جمال عبد الجواد
09:00 م الجمعة 14 يونيو 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

المذكرات الشخصية هي أمتع وأفيد ما يمكن قراءته، ففيها تجد الحقيقة بلا تحليل مفتعل، فهي فقط تحكي ما حدث، بقدر مناسب من الصدق والمكاشفة. ينطبق هذا على المذكرات التي نشرها الأستاذ رجائي فايد مؤخرا. تغطي المذكرات حقبة طويلة تبدأ من نهاية الخمسينيات، وتشمل موضوعات عدة، من حياة الريف، للحياة الجامعية، للسلطة والحركة السياسية، والمثقفين؛ كل هذا قبل أن ينتقل بك الكاتب إلى العراق وكردستان التي قضى فيها المؤلف سنوات طويلة، حتى أصبح أهم الخبراء المصريين في الشأنين الكردي والعراقي.

أحببت مذكرات رجائي فايد، وسأنقل لكم سطورا قليلة منها لتشاركوني الفائدة والمتعة. التحق الطالب الريفي رجائي فايد بجامعة الإسكندرية في مطلع الستينيات، "وكانت المنطقة الواقعة بالقرب من مباني كليات الجامعة (الشاطبي وكامب شيزار والإبراهيمية)، تعج بمن هم من أصول أجنبية، وكان من الأمور المعتادة أن تجد امرأة عجوز من هؤلاء تعيش وحيدة، فتقوم بتأجير غرف شقتها للطلاب في الشتاء، وللمصطافين في الصيف، ومن هنا يبدأ طريق (البوظان) للطالب، لذلك حرصت أمي على أن أقيم في المدينة الجامعية رغم أن كلفتها أغلى بكثير من الإقامة في غرفة في شقة خوجاية، من أجل الأمان الأخلاقي. ..كانت الإقامة في المدينة الجامعية أغلى بكثير من الإقامة عند الخوجاية، لذلك كان أغلب من يقيمون فيها من أبناء الطبقة فوق المتوسطة، والقليل من أبناء الطبقة العليا، ولارتفاع كلفة الإقامة بالمدينة الجامعية فإن عدة مباني فيها كانت فارغة لافتقارهم إلى الطلاب". أتوقف هناك لألفت نظرك إلى المدن الجامعية التي كانت أعلى تكلفة من الشقق الخاصة، وإلى أن المدينة الجامعية كانت سكنا للطبقات الوسطى، وذلك قبل أن تقرر الحكومة دعم كل شيء في البلد، من رغيف العيش وتذكرة القطار وحتى سكن الطلاب المغتربين، والنتيجة هي تدهور مستوى كافة هذه الخدمات والسلع؛ ولسان حالنا يقول إنك لو أردت أن تنحط بمستوى أي سلعة أو خدمة، فما عليك إلا أن تدخلها في نظام الدعم، وهذا هو ما حدث لمصر عندما دخل البلد كله في نظام الدعم لعدة عقود.

كتب رجائي فايد "كنت أرى أن الطعام الذي يقدموه لنا في المدينة الجامعية، طعاما جيدا، وبيني وبين نفسي أراه أفضل مما كنت أتناوله مع أسرتي في القرية، لكني ما كنت أجرؤ على قول ذلك، وإلا اعتبرني زملائي من طبقة أدنى منهم، ولذلك كنت أشاركهم في الاحتجاجات المستمرة على رداءة الأكل، والتي وصل بعضها إلى التظاهرات، والتي تتدخل الشرطة لفضها". يكشف لنا رجائي فايد في هذا المقطع أحد آليات الاحتجاج الجماهيري، عندما تتزعم الأمر جماعة صغيرة غاضبة، ويعجز الباقون عن مخالفتها مخافة أن تلحق بهم وصمة ما، سواء كانت هذه الوصمة طبقية من النوع الذي أشار إليه الكاتب، أو وصمة سياسية من نوع ممالأة النظام، الشائعة بين بعض شباب هذه الأيام.

إقامة صاحبنا في المدينة الجامعية لم تحمه من (البوظان)، فرسب في كل مواد الفصل الدراسي الأول، ولم يكن جاهزا عندما جاء وقت امتحان الفصل الدراسي الثاني، كتب رجائي فايد "سعيت للحصول على تقرير طبي يعفيني من دخول الامتحان، وأرشدني البعض إلى طبيب متخصص في كتابة تلك التقارير في حي محرم بك، وأذكر أنني ذهبت إلى عيادة الطبيب، وقبل أن أنطق بحرف..

- قال: عاوز شهادة مرضية؟

- هززت رأسي بالإيجاب

- قال وهو يمد يده: خمسون قرشا.

- ناولته المبلغ

- دون تفكير كتب (مصاب بدوسنتاريا حادة مع بدايات نزيف ويحتاج إلى راحة لمدة شهر)

- وقال وهو يسلمني التقرير (تحب أكتب لك راحة شهر ونصف؟)

- قلت له: ماشي

- مد يده من جديد وقال: ربع جنيه كمان.

- قلت له: لا كفاية كدة.

وخرجت لأسلم تقريره الطبي إلى شؤون الطلبة، ملتمسا الموافقة على قبول اعتذاري عن دخول الامتحان. استلم الموظف الطلب مع التقرير الطبي، وضحك قائلا (انت زي الجن أهه).

الفساد في بلادنا قديم ولم يولد أول أمس، واللوائح والقوانين فيها ثغرات كثيرة تسمح للمتلاعبين بالنفاذ. هذه الثغرات ليست خافية، لكنها معلومة للكافة، يتحدثون كثيرا عنها، يستخدمونها عند الحاجة، ويتشككون في محاولات سدها.

في مذكرات رجائي فايد الممتعة الكثير والكثير، لكنني لن أحرق لكم متعة قراءتها.

إعلان

إعلان

إعلان