إعلان

الولايات المتحدة ونهاية لعبة "صناعة الأعداء"

د. عمار علي حسن

الولايات المتحدة ونهاية لعبة "صناعة الأعداء"

د. عمار علي حسن
02:12 م الخميس 04 يوليو 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

من يطالع المقال المهم الذي نشره ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية في مجلة "فورين أفيرز" الشهيرة يكتشف للوهلة الأولى مدى الشعور الهائل بالإخفاق الذي يسيطر على متخذي القرار وصانعيه بالولايات المتحدة حيال خطط بلادهم واستراتيجياتها في الشرق الأوسط، الأمر الذي بات يفرض على واشنطن أن تبحث عن رؤى دبلوماسية ناعمة، بدلا من الغطرسة العسكرية، للتعامل مع دول المنطقة، وخاصة مع من يسميهم هاس "الفاعلون الجدد" الذين أخذوا زمام القوة والمبادرة من أمريكا، وبات من الحماقة تجاهلهم.

وفي ظني فإن هذا الفشل لا يرجع فقط إلى بروز مقاومة شرسة للمشروع الأمريكي، وغياب الخبرة الاستعمارية للولايات المتحدة، وحالة العمى التي تسببها غطرسة القوة، بل أيضا إلى أن هذا المشروع قام منذ البداية على افتراض وهمي وخاطئ، وهو ضرورة أن تجد الولايات المتحدة عدوا تنازله بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، حتى تتمكن من تسويق استراتيجياتها في العالم، ولذا تعالت الصيحات التي تقول إن صراع الغرب بعد سقوط الشيوعية سيكون ضد الإسلام.

وعبر السيناتور داني كويل نائب الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش (الأب) عن ذلك بجلاء في الكلمة التي ألقاها كويل في مايو 1990 أمام خريجي الأكاديمية العسكرية الأمريكية واعتبر فيها أن العدو الوحيد المتبقي في وجه الغرب هو الإسلام. ثم صنف الإسلام على أنه أيديولوجية معادية للغرب الليبرالي، ويشكل له التهديد نفسه الذي كانت تمثله النازية والشيوعية، فقد قال "لا يزال العالم مكانا خطرا، لقد أخذتنا الدهشة من هذا القرن المنصرم ببروز الشيوعية والنازية والأصولية الإسلامية".

وقد ردد كويل هذه الأقاويل مرة أخرى في كلمته أمام مؤتمر السياسة السنوي الحادي والثلاثين للجنة الأمريكية ـ الإسرائيلية للشؤون العامة (أيباك) في يونيو من عام 1990 نفسه. وفعل الرئيس جورج بوش (الابن) الشيء نفسه عقب حادث الحادي عشر من سبتمبر، حين تحدث عن "الأيديولوجيات المدمرة"، وشبه ما يعتقد فيه "الإسلاميون المتطرفون" بما كان يؤمن به النازيون والفاشست، وكرر العبارة نفسها قبل أسابيع حين تحدث عمن أسماهم "الفاشيون الإسلاميون"، ما وجه بابا الفاتيكان نفسه إلى حديثه المغلوط المغرض وغير العلمي عن "الإسلام والعنف والعقل"، ليضع الدين مجددا في خدمة المشروع الإمبراطوري الأمريكي، على غرار ما جرى إبان الحروب الصليبية، وأيام التوسع العثماني في أوروبا.

وفي الحقيقة فإن هذه الصورة المنطبعة في الذهن الغربي عن العرب والإسلام ليست وليدة السنوات الأخيرة، بل تضرب بجذورها في عمق تاريخي بعيد، فقد استمر وعي الغرب بصورة العربي موروث عن القرون الوسطى يقوم على أسس انفعالية مجبولة على العداء. وهذا الوعي المشوه واصل سيره حتى القرن العشرين، بتعديلات محدودة، ليسهم في علاقة التبعية بين الدول العربية والغرب، مثلما ساهم في حركة الاستعمار. وبالطبع فإن هذا التصور العدائي والمتحامل لا يمكن رده إلى الأفراد بل إلى المنظومة الحضارية الغربية برمتها، في جوانبها السياسية والاجتماعية والإعلامية، والتي وجدت من سلوك بعض المتطرفين بيننا، خصوصا أتباع تنظيم القاعدة، مبررا لمواصلة التمسك بهذه التصورات.

ويعزى هذا الإدراك المشوه إلى جهل الغرب بالماضي والحاضر العربي. فباستثناء بعض المختصين الذين تكبدوا مشقة تعلم اللغة العربية والسفر مرارا إلى الوطن العربي والبحث عن المعلومات من مصادرها الأولى، فإن الغربيين قلما يعرفون واقع الوطن العربي. وعدم العودة إلى المصادر، أو تعمد التحيز، جعل وسائل الإعلام هي المنفذ الرئيسي، إن لم يكن الوحيد، في تشكيل الصورة العربية ـ الإسلامية لدى الذهن الغربي. والإفراط في الإعلام الحدثي يميل في الغالب إلى تشويش الأفكار وخلط الأوراق والمسائل وحجب الرهانات، والرأي العام المضلل يلجأ إلى الأشياء المقولبة والأفكار المعلبة والصور النمطية والأحكام المسبقة، التي تقوم على تفسير واقع الوطن العربي بالأصولية والعنف والثروة النفطية ومعاداة الغرب والهجرة. وهذه القضايا تسهم في تكريس الصورة القديمة للشرق في إدراك الغرب على أنه مقاتل ومتعصب واستبدادي وشره للاستهلاك.

وبدا هذا التصور يشكل تيارا في الغرب يؤمن بـ"صدام الحضارات" حسب تعبير الباحث الأمريكي صمويل هنتنجتون، الذي تحدث عما أسماه خطوط التقسيم بين الحضارات باعتبارها نقاط تفجر الصراعات في المستقبل، وهي تحل في نظره محل الحدود السياسية والأيديولوجية لحقبة الحرب الباردة، الأمر الذي يعني حتمية المواجهة بين الحضارتين الإسلامية والغربية، وانعكس هذا على العديد من الأدبيات السياسية الغربية التي راحت تتحدث عن أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي استمر في مواجهة مع الغرب طيلة التاريخ.

لكن ذلك لم يمنع من تفهم بعض عناصر النخب السياسية والفكرية الغربية لطبيعة الدين الإسلامي، ووجود "أوجه متعددة للإسلام" على حد ما ذكره هرير دكمجيان وهو واحد من أكثر الباحثين الغربيين تعمقا في دراسة ظاهرة الإحياء الإسلامي الحديثة، وكذلك وجود اختلاف بين المسلمين أنفسهم في التوجهات السياسية والفكرية وفي نمط علاقتهم بالآخر، وخاصة الغرب. لكن صوت أصحاب هذه الرؤية لا يزال خافتا مقارنة بالمروجين لفكرة صدام الحضارات و"الإسلام العدو" الذين وجدوا مؤسسات تتبنى وجهة نظرهم المغلوطة، في سبيل تحقيق أهداف سياسية معنية في المحيط الخارجي.

لكن حصاد ما زرعته المقاومة العراقية واللبنانية والفلسطينية، وتنامي الشعور بالعداء للولايات المتحدة في الشارع العربي عموما، وتقدم القوى السياسية المناهضة للمشروع الأمريكي في المنطقة، جعل استراتيجية "العدو المفترض" موضع تساؤل جدي وعميق في دوائر صنع القرار بالولايات المتحدة ولدى كثير من الكتاب والباحثين، بل لدى الشارع الأمريكي نفسه. ومن ثم بات على واشنطن إما أن تتخلى عن هذه الاستراتيجية، أو تبحث عن طرق وأساليب جديدة للتعامل مع أعدائها الوهميين.

إعلان