إعلان

الحاجة لمشروع إصلاحي فكري (٧)

د. غادة موسى

الحاجة لمشروع إصلاحي فكري (٧)

د. غادة موسى

أستاذ مساعد - كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة 

09:01 م السبت 10 أغسطس 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

في الجزء السادس في مفهوم الحداثة تمت الإشارة إلى خصائصها من العقلانية ورفض التقليد والفردية ونزع القداسة عن العالم. وقد ربط العديد من المفكرين العرب والغربيين بين وجود هذه الخصائص وإمكانية خروج المجتمعات العربية من عزلتها وتخلفها وتحقيق النهضة المنشودة.

وعن أهمية الخصائص السابقة، وعن ضرورة دراستها فإن القول بأن وجودها كافٍ وشرط لتحقق الحداثة وحصول الإصلاح الفكري يجرنا إلى منهج تفكير خطي "ميكانيكي" مفاده أن توافر وتحقق الشيء - وهنا الخصائص السابقة- يؤديان إلى تحقق الحداثة بشكل آلي. وهذا منافٍ للتاريخ وللواقع.

فالأمر يتطلب ما هو أبعد من ذلك. وبشكل مبسط هناك حاجة للتأصيل النظري وللبحث في مفاهيم العقلانية والفردية ورفض التقليد ونزع القداسة عن العالم. بالإضافة إلى تناول هذه المفاهيم من منظور نقدي، بمعنى هل هي خصائص ومفردات متشابكة ومتلازمة أم يمكن أن يتحقق البعض دون الآخر؟ وهل ساهمت بالفعل في التحديث؟ وهل هي نتاج تجربة تاريخية غربية أم كانت لها مثيلاتها في الحضارات الشرقية ومنها حضارات العالم العربي الشرقي: الآشورية والبابلية والفينيقية والفرعونية والعدنية والعُمانية؟

يرى العديد من الباحثين أنه لا يوجد تمايز فكري بين المشرق والمغرب لأن وحدة النظام المعرفي تدحض هذا الوهم. فالاتصال التاريخي والحضاري متواصل، ويمكن أن يكون قد تعرض لصعود وهبوط، ولكنه تواصل عبر معابر عديدة إما في شكل هجرات ونزوح بفعل الحروب والاقتتال أو في شكل انتقال للعلوم مع حركة التجارة البحرية تحديدا أو من موجات الاحتلال والاستيطان المختلفة. فجميعها شكلت بشكل أو بآخر معابر فكرية. وليس أدل على ما نقول مما سيق ذكره في مقالات سابقة من كتاب "وصف مصر" الذي وضعه علماء رغم أنه كان نتاجا لحملة فرنسية محتلة. في حين يرى مفكرون آخرون وجود تمايز واختلاف كبيرين بين الشرق والغرب.

----

فالمطلوب من أجل الخروج بإطار لمشروع إصلاحي فكري - بداءة- التحرر من فكرة التمايز "في الحداثة" بين المشرق والمغرب من جهة، ومن فكرة أن المشرق والمغرب يخضعان لسقف معرفي واحد على مستوى التاريخ والواقع. فلا نحن في تمايز وقطيعة تاريخية ومعرفية وفكرية، ولا نحن متماثلون. فماذا نحن؟

لقد انشطر الفكر العربي لدى مفكرينا من العرب إلى تيارين: أحدهما دعا إلى الأخذ بالشروط التاريخية والمقدمات الفلسفية التي قامت عليها الحداثة الغربية، وتيار فكري آخر دعا إلى الفصل بين روح الحداثة وتطبيقاتها بوصفها تجربة تاريخية لمجتمعات غربية، ومن ثم طرح تيار فكري بديل.

وما فعله العديد من المفكرين والباحثين العرب منذ القرن التاسع عشر هو البحث في روح الحداثة، ولكن بالتوفيق بين مفاهيم ومصطلحات غربية مع واقع مختلف لنكون- وفقا لرؤيتنا- حداثين نسعى لتحقيق الحداثة! فنحن لم نصل بعد إلى توافق معرفي حول بعض الخصائص الغربية للحداثة وإمكانية اعتبارها خصائص ممكنة التحقق في مجتمعاتنا العربية الشرقية.

----

والمطلب الآخر للخروج بمشروع فكري إصلاحي هو فهم خصائص الحداثة كما حددها الغرب من حيث الدلالات اللغوية والسياق.

فبالنظر إلى مفهوم الحداثة نجده يشير إلى مرحلة تاريخية بلغتها المجتمعات الإنسانية بدرجة أو بأخرى، وارتبط بمرحلة ظهور المجتمع الحديث في أوروبا الغربية المتميز بدرجة من الموضوعية والتقنية والعقلانية. ويشير "هيجل" إلى الحداثة باعتبارها مرتبطة بالأزمنة الحديثة في أوروبا الغربية، أي منذ القرن السادس عشر، أي القرون الثلاثة الماضية: اكتشاف العالم الجديد وعصر الإصلاح وعصر النهضة والأنوار. وبالإنجليزية هي Modern Times. فتصبح بذلك الحداثة مرتبطة بحركة الاستنارة أو الأنوار، وتصبح حركة الأنوار مرتبطة بالعلم. ويصير العلم مركز الفكر وموجهه لفهم قوانين عمل المجتمع والوصول إلى المعرفة باستخدام العقل.

وفي الواقع فإن هذا التطور لم ينفصل - كما يرى البعض - عن التجربة التاريخية والتطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للمجتمع الأوروبي.

أما بالنسبة لمفهوم العقلانية، فإذا كان العقل هو الذي يقود إلى المعرفة، فإن "العقلانية" كمذهب تقابل بـ"التجريبية" فعند الفيلسوف الألماني "كانط" العقل هو مصدر المعرفة اليقينية خلافا للمذهب التجريبي الذي يرى ان المعرفة اليقينية تنبع من التجربة لا من العقل. ورغم ذلك نرى الفلاسفة في ترتيبهم مصادر المعرفة يضعون العقل في المرتبة الأولى.

والعقلانية كما يتضح من الاسم مرتبطة بالعقل وفعل العقل. وهي في الإنجليزية rationalism، والأصل لاتيني ratus وartus ويشير إلى التناسق والثبات. وفي الانجليزية الأصل هو ratio وله عدة معانٍ مثل النسبية والحساب والاستدلال ومنظومة الأفكار المترابطة.

وبالتالي حتى يمكن أن تتحقق إحدى خصائص الحداثة "كزمن تاريخي" لا بد من تحقق العقلانية ووجود قدرة على ربط الأفكار والاستدلال في تناسق وثبات.

في الجزء الثامن سيتم استكمال الحديث عن خصائص الحداثة الأخرى بالبحث في المفهوم ودلالاته من أجل الإجابة عن تساؤلات الحداثة في الفكر العربي.

إعلان