إعلان

"الاستحلال".. استباحة الإرهابيين للدماء والأموال والأعراض

د. عمار علي حسن

"الاستحلال".. استباحة الإرهابيين للدماء والأموال والأعراض

د. عمار علي حسن
09:01 م الخميس 08 أغسطس 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

كل شيء مباح ما دام يحقق مصلحة المتطرفين، وهم لن يعدموا وسيلة بحث عما يسمونه "تخريجة"، فيدفنون عيونهم في بطون الكتب القديمة لاصطياد أي مرويات أو تفاسير وتأويلات فاسدة، ثم يقولون بملء أفواههم: ها نحن قد وجدناها، وباتت الطريق مفتوحة أمامنا للاستيلاء على الأموال، وانتهاك الأعراض، وسفك الدماء، دون أن نخشى الوقوع في الحرام.

إنه مبدأ "الاستحلال" الذي تؤمن به جماعات متطرفة وإرهابية وتكفيرية، فتعيث به في الأرض فسادا، حين تسطو على المصارف ومحلات بيع الذهب وتستولي على آبار النفط والغاز وصوامع الغلال والمصانع، وحين تسبي النساء فتصير فائقات الجمال منهن خليلات لقيادات هذه التنظيمات باسم "غنائم الحروب" و"ملك اليمين" وتباع البقية في أسواق النخاسة.

لقد توقف البعض عند ورود كلمة "استحلال" في البيان الذي أصدره منظر وفقيه القاعدة الأول، سيد إمام عبدالعزيز، المعروف باسم الدكتور فضل، من أحد السجون المصرية، وطرح فيه مبادرة تحرم التوسع في القتل باسم الإسلام، ويستنكر إزهاق الأرواح على خلفية الجنسية أو اللون أو المذهب، ويرفض سلب أموال المعصومين، وتخريب الممتلكات.

الفقه الإسلامي المتعارف عليه يكرر دوما مصطلح "الحلال" في مقابل "الحرام" وبينهما ما هو مباح وعفو، لكن مع الجماعات والتنظيمات المتطرفة تعزز تكرار كلمة "استحلال"، التي تبدو في حد ذاتها تعبيرا عن اغتصاب الحلال نفسه، أو إدخال فيه ما ليس منه.

وفي اعترافات متطرفين وإرهابيين ينتمون إلى جماعات وتنظيمات عدة، تنتشر في بلدان عديدة، وردت كلمة الاستحلال كثيرا، معطوف عليها حديث عن سلب الأموال، ونهب الممتلكات بغية الحصول على تمويل بأي ثمن، لا سيما لدى الجماعات المحلية، التي لا تتوافر لها مصادر مساعدة من جهات أجنبية، ولا يتبناها سرا بعض الموسرين الموالين لما تسمى "السلفية الجهادية".

فقبل أن تتصل الجماعات الإرهابية بالعولمة مع ثورة الاتصالات، وهجرة العنف إلى كافة أرجاء الأرض، كانت تهاجم بنوك ومصارف ومحلات ذهب مملوكة لمواطنين عاديين، وتستولي على كل ما فيها من مصوغات مشغولة لبيعها وشراء أسلحة أو تدبير نفقات أخرى تحتاجها في القيام بعمليات إرهابية، أو نشر أفكارها المتطرفة في ربوع المجتمع.

ففي تسعينيات القرن العشرين كانت محلات الذهب المملوكة للمسيحيين في مصر مستباحة من قبل تنظيمي "الجماعة الإسلامية" و"الجهاد". وطيلة السنوات الفائتة لجأت بعض الجماعات العنيفة في الصومال إلى القرصنة في المحيط الهندي لتوفير أموال تنفقها على مختلف أنشطتها. وفي أواخر عام 2014 تم القبض على خلية إرهابية في المغرب، مكونة من مغربي وجزائري وفرنسي، بعد نجاحها في السطو على أموال من مؤسسات مالية بفرنسا عن طريق النصب بهدف تمويل عملياتهم الإرهابية وتهجير مجندين من المغرب وفرنسا للالتحاق بداعش. وقد كان هؤلاء يتقدمون إلى بنوك فرنسية بأوراق مزورة تخص شركات وهمية، من أجل الحصول على قروض مالية.

وإلى جانب مداخليه من فرض فدى مالية باهظة لتحرير الرهائن الأجانب الذين اختطفهم، وفرض الضرائب والجمارك والجبايات، وتلقي أموالا من أجهزة استخبارات، يشكل "الاستحلال" المبدأ الرئيسي لدخل تنظيم داعش، حيث يفتح أمامه باب النهب والسلب.

فقد دأب التنظيم على الاستيلاء على بعض المؤسسات والمصالح الخدمية، كالمستشفيات ومرافق المياه والكهرباء، وكذلك على بعض المحال التجارية والمطاعم، ونهب ما بها من مؤن وسلع وموارد، أو إدارة التنظيم لها، وتحصيل عوائدها. ويغير التنظيم على بعض القرى والمدن ويستولي على ما يجده نافعا له، بدعوى أنها "غنائم حرب"، وفي مقدمة هذا سرقة البنوك، مثلما جرى مع بنك الموصل، وخزائن الشركات الكبرى. وتباع البضائع والمواد غير العسكرية في أسواق محلية لبيع المسروقات، وكان يُسمح لمسلحي التنظيم بشراء هذه البضائع بنصف ثمنها. ويمكن للناس أن يشتروا أي شيء مما تم نهبه، بدءًا من السيارات والأجهزة الكهربائية والأثاث وأبواب المنازل والنوافذ وصولا إلى الماشية وقطعان الضأن.

كما استولى التنظيم على آبار نفطية في العراق وسوريا، وهرب محتواها وباعه في السوق الدولية السوداء بأثمان أقل من السعر العالمي الذي حددته أوبك، الأمر الذي جعل كثيرا من التجار -بل من الدول- تقبل على نفط داعش، بما سهل للتنظيم أن يجعل منه مصدرا أساسيا للدخل في الأماكن التي أعلن قيام دولته فوقها. وهناك تقديرات بينت أن داعش كان يحصل على ثلاثة ملايين دولار يوميا من هذا المصدر، قياسا إلى ما أظهرته صور ملتقطة من الفضاء والطائرات الحربية تظهر ضخامة حجم تجارة النفط غير الشرعية تلك، إذ إن قافلة واحدة من الشاحنات الناقلة للنفط من سوريا امتدت إلى عدة كيلومترات.

واستحل التنظيم أيضا تجارة الآثار بعد استيلائه على مناطق أثرية كبرى في سوريا والعراق، وفككها، بدعوى أنها أصنام، يمكن أن تعبد من دون الله. وسجل فيديوهات والتقط صورا، تظهر تحطيمه لهذه الأماكن، بينما هو في حقيقة الأمر باع كل ما عثر عليه فيها إلى تجار آثار كبار، وإلى دول معنية بالاستيلاء على بقايا الحضارات القديمة على أرض العرب.

أما استحلال الأعراض فقد مارسه داعش بإفراط، في الأماكن التي سيطر عليها، واستحل نساءها، لا سيما من الإيزيديات بدعوى أنهن سبايا أو غنائم حرب، ومن ثم طرحهن للبيع في سوق النخاسة، الذي أقامه لهذا الغرض.

وهناك نوعان من الاستحلال تبنتهما الجماعات والتنظيمات الإرهابية، الأول هو استحلال مال الأفراد المخالفين، في الدين أو في المذهب أو في الجماعة. والثاني هو استحلال المال العام عبر عمليات السطو على البنوك وخزائن مصالح حكومية إلى جانب التزوير والتزييف سواء لعملات أو لمستندات.

وتستعمل هذه التنظيمات تلك الأموال المسروقة في شراء الأسلحة، وتسهيل مهام عناصرها للقيام بعمليات إرهابية، وشراء الضمائر والذمم في عملية تجنيد العملاء في المؤسسات الرسمية وغيرها، إلى جانب الإنفاق على الحياة الخاصة لقادة التنظيمات.

ولا شك أن مبدأ "الاستحلال" الذي تتبناه الجماعات المتطرفة والإرهابية يتعارض مع القرآن الكريم، حيث يقول الله سبحانه وتعالى: "وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ"، ويقول سبحانه أيضا: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا".

كما يتعارض هذا المبدأ الخاطئ مع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: "إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، ويقول أيضا "لا يدخلُ الجنةَ لحمٌ نبتَ من سحتٍ، وكلُّ لحمٍ نبتَ من سحتٍ فالنارُ أولى به"، كما قال في حجة الوداع: "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا".

وما يدعو للعجب أن كثيرا من المصادر الفكرية والفقهية التي تعتمدها الجماعات المتطرفة في صناعة أيديولوجيتها وإطارها الفكري ترفض مبدأ الاستحلال، بعد أن تعرفه بأنه "جعل ما حَرَّمه الله حلالاً، بصفة خاصة أو عامة"، ويصل رفضها إلى حد تكفير من يصر على أن يجعل الحرام حلالا، ويتمسك بمعصيته، ويجحد التحريم.

إعلان