إعلان

الحاجة لمشروع إصلاحي فكري «١٠»

د. غادة موسى

الحاجة لمشروع إصلاحي فكري «١٠»

د. غادة موسى

أستاذ مساعد - كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة 

09:00 م السبت 28 سبتمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

أشرْت في الجزء التاسع من النقاش حول الحاجة لمشروع إصلاحي فكري إلى أن العقل عبر التراث الإنساني المتجسد في الحضارات المشرقية القديمة تأسس على الفكر العقلاني الذي أنتج علومًا طبيعية وإنسانية أفادت البشرية في المشرق والمغرب على حد سواء.

كان التحليل الموجز لخصائص الحداثة- متمثلا في العقلانية والفردية والتقليد في الحضارات والمجتمعات المشرقية- ليس بهدف إحيائها، بقدر ما هو بحثها والانتقال بها وتطويرها في سياق تاريخي آخر.

فلا أحد يختلف على أهمية العقلانية والفردية والحفاظ على التقليد كمكونات تعكس تكوين العقل العربي أو المصري في فترات زمنية مختلفة. فالفردية لا تعني دوما الخلاف المذموم حول أفكار، مثل الحرية، ولكنها قد تكون اختلافات محمودة.

غير أنها في مراحل تاريخية معينة أدت إلى التعصب، ومن ثم التفرقة والتشرذم، وخلق بنى لا هي ثقافية ولا هي اجتماعية ومعزولة عن المحيط الاجتماعي.

أما الحفاظ على التقليد من قيم وموروثات، فتعهدت العقلانية لتصير نقطة الارتكاز الفكري في مجتمعاتنا المشرقية. وظلت كل الأفكار والكتابات والممارسات تدور في فلك هذه النقطة، دون أن تنتقل بها إلى مجالات التنظيم الاجتماعي والاقتصادي والثقافي المعاصرة.

كما تم ربطها بالنموذج الديني مسيحيًا أو إسلاميًا. ولم تغادر هذا النموذج- حتى الآن- إلى نماذج أخرى. وهو الأمر الذي تسبب في إشكاليات كبيرة تجسدت في الميل نحو تفضيل نموذج "ديني" عن نموذج "ديني" آخر، ومن ثم إهمال خلق ثقافة تهتم ببناء الفكر والرأي- سواء بمكون ديني أو في غياب مكون ديني- وتعلي من قيم العقلانية واحترام الموروثات مع نقدها وتطويرها.

بعبارة أخرى، وعلى حد تعبير أحد الفلاسفة العرب (الدكتور محمد الجابري) عطل التشبث القوي بالتقليد تطوير "جنسية ثقافية". ويقصد بها استخدام المفكر أدوات ثقافية من داخل بيئته تعاونه على فهم وتحليل مشاكله وقضاياه وأيضاً قضايا المجتمعات من حوله. لأنه ليس من العلمي ولا العقلي أن أستخدم مكونات العقل الغربي التي ولدت من رحم أحداث وتطورات شهدها المجتمع الغربي، لأطبقها على مجتمعات تختلف في بناها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وفوق ما سبق، فإن مجتمعاتنا وبيئتنا المشرقية مُحملة بميراث تاريخي حضاري ديني.

وما زلنا في خلاف فكري- رغم مرور قرون طويلة- على كيفية التعامل مع ذلك الميراث التاريخي!

وإذا كان حضور التقليد الموروث أحد أهم السمات الرئيسية للعقل العربي، والتي بموجبها يحكم على الأمور بعيدا عن الاهتمام بالعالم المادي، وأكثر اتصالا بالروحانيات، فإن ذلك على أهميته قد لا يكون كافياً لبناء مشروع إصلاحي فكري.

وأدلل على ذلك بالعودة إلى ما أسميه بـ"عصور التنوير والعقلانية" التي أنتجت علماً جمع بين الوجود المادي والوجود الروحي للإنسان. فكان للإنتاج وللإبداع وجودان: مادي وروحي. وقد يكون هذا النموذج للإصلاح ملهماً في عصره وسياقه، ويمكن الاستفادة من مكوناته في إصلاح الفكر، ولكنه ليس بالنموذج المعياري.

وفي الحقيقة لا أرى ضرورة لوضع نموذج معياري استرشادي لإصلاح الفكر العربي والمصري لتغير الأحوال والأحداث والتقنيات بشكل لا يسمح بصمود أي نموذج أو بنية لفترات زمنية طويلة.

فالأجدى هو مراجعة ما يتم وضعه من بنى فكرية إصلاحية استنادًا إلى تطور التنظيمات المجتمعية والاحتياجات البشرية والتقنيات التي لم تعد محصورة في مكان جغرافي بعينه.

ومن ثم، فإن أي مشروع لإصلاح الفكر لا يمكن أن يبدأ إلا من دراسة الفكر، أي دراسة مكونات هذا الفكر. بعبارة أخرى- كما حدث عبر الأجزاء العشرة- التعرف على الأجزاء التي تكون الفكر وتوجهه.

وأزعم أنه يجب أن يكون لدينا مصدر نبدأ منه. وهذا المصدر من وجهة نظري هو "الأخلاق". فالحضارات المشرقية تطورت بدافع الأخلاق، وأنتجت أخلاقًا تُسير الحياة الروحية والمادية. ثم جاءت القوانين والديانات السماوية لتنظم وتفنن الأخلاق.

والأخلاق ليست متعارضة مع العقلانية ولا مع التقليد، ومن ثم الفردية، بل تتجاوزها إلى مكونات فكرية أخرى أكثر ثراءً كالمساواة والعدالة والاستقرار. وجميعها تنفي فكرة التطور والتقدم، من خلال السيطرة على الآخر أو إخضاعه لفكر أو معتقد ديني أو سياسي أو اقتصادي. فالأخلاق- بعيدا عن الطوباوية- بمقدورها أن تصبح "الهوية الفكرية" للمجتمعات المشرقية، وتوجه مشاريعها الإصلاحية إذا ما صارت أحد مكونات العقل.

إعلان