إعلان

الفراغات القائمة في الخطاب السياسي

د. عمار علي حسن

الفراغات القائمة في الخطاب السياسي

د. عمار علي حسن
09:00 م الأربعاء 04 سبتمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بدأ الجاحط كتابه "البيان والتبيين" بعبارة عميقة يقول فيها: "اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول، كما نعوذ بك من فتنة الفعل"، يعلق عليها مصطفى ناصف قائلا: "أدرك الجاحظ أن استعمال اللغة ينطوي على مخاطر.. يصنع المرء القول ثم ينظر فيه، فلا يفيق من أثره، يعجب كيف أوتي هذه القدرة، ويخيل إليه أنه رهين ما ابتدعه، يظن أن يسيطر على القول، ولكن القول يعود فيقتص لنفسه، أو يسيطر على صاحبه".

وهذا الوهم القائم بين اعتقاد القائل بأنه قد امتلك ناصية الأمر، وأمسك بزمامه، وبين الحقيقة التي فعلتها اللغة به بعد نطقها حين انفتحت على تأويلات عدة في أذهان من سمعوه، ليس سوى مسافة تكون دوما، مهما كان الخطاب محكما ودقيقا، بين الناطق والسامع، أي فراغ قد يطلب من يسمعه ملئه بمزيد من الشرح والتفسير، وقد يجد من نطق نفسه في حاجة إلى توضيح حين تتوالى ردود الأفعال على ما قاله، سواء كانت ردودا مكتوبة أو ملفوظة أو عبر الإشارات والإيماءات.

وحتى لو كان الناطق مطالبا أحيانا بأن يستتبع القول الفعل، فليس بمكنته في كل الأحوال، وربما أغلبها، أن ينهي المسافة التي لا محالة قائمة بين الملفوظ والمفعول، إن استبعدنا بالفعل من قصدوا بالفعل، ومنذ البداية ألا يطابق فعلهم قولهم، وهم من يوصفون بالمنافقين في نظر من يرون أن النفاق هو مخالفة القولِ العملَ، والعملِ القولَ.

وإنهاء أي فراغ قد يسببه غموض الخطاب أو اعوجاجه، أو سوء فهم متلقيه، أو ضعف ما لديه من محصول يساعده على إدراك معاني ما يسمعه ومراميه، هو الذي دفع المعتزلي بشير بن المعتمر المعتزلي، شيخ الجاحظ إلى القول: "من أراغ معنى كريما فليلتمس له لفظا كريما، فإنّ حقّ المعنى الشريف هو اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما، وعما تعود من أجله أن تكون أسوأ حالا منك، قبل أن تلتمس إظهارها وترتهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما. فكن في ثلاث منازل، فإنّ أولى الثلاث أن يكون لفظك وثيقا عذبا، وفخما سهلا، ويكون معناك ظاهرا مكشوفا، وقريبا معروفا، إما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإما عند العامّة إن كنت للعامة أردت".

إننا نجد أنفسنا دوما في مواجهة سؤال مهم هو: هل يستطيع منتج الخطاب السياسي أن يقول كل شيء لمن يتابعه؟ بمعنى أن يجلس مع نفسه أو بصحبة مستشاريه والمساهمين في صناعة قراره، ويدرس معهم كل ما سيصرح به أو يلقيه في خطبة عصماء أو ما يبديه من إشارات وعلامات بحيث ينتهون جميعا من الوصول إلى كل احتمالات المعاني التي ستصل إلى الناس، وبعدها ينتجون خطابًا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها؟

إن الإجابة التي تأتي للوهلة الأولى، ودون أدنى تفكير هي: لا.

فالمعاني قد تتعدد بقدر عدد ملتقي الخطاب، ولكلٍ طرقُ قياسه وفهمه وتأويله وفق خلفيات عدة يحملها السياق من جهة، ومخزنة في الذاكرة وموروثة جينيا، من جهة أخرى.

حتى إن الفرد الواحد قد تتضارب في رأسه المعاني، وتشتعل الاحتمالات، وقد تتبدل من وقت إلى وقت في تلقيه الخطاب الواحد بمفرده، أو عبر تفاعله من الآخرين، بحيث نجد أنفسنا في النهاية أمام شبكة معقدة من الرؤى والتصورات.

معنى هذا أنه لا يوجد خطاب سياسي قادر على سد الثغرات أو إغلاق الفراغات تماما، لأن منتجه ليس بمقدوره أن يقف على كل ما يؤديه- ما ينطق به أو يصنعه إشارة ورمزا من معنى مباشر ومقصود وواضح، ناهيك من ظلال من المعاني المستترة خلف ظاهر العبارة، تتوالد بلا هوادة، وتسبح في بحار من الظنون.

من زاوية بلاغية ولسانية سألت د. ثروت مرسي في معرض مناقشتي معه لكتابه المهم عن "التداولية"، حول هذه القضية، وما إذا كان بوسعنا أن نصل إلى فهم الفراغ السياسي من زاوية تداولية، فأجاب محددا أربعة مسارات متلاحقة ومتكاملة، يمكن أن تشكل سبب وجود الفراغ في الخطاب السياسي، وهي:

1 ـ الفراغات تترك في الخطاب عمدا: هنا يكون منتج الخطاب السياسي واعيا لأهمية ترك فراغات في قوله أو إشاراته، ليحقق بها أهدافه هو في الإيحاء والإيهام والتورية والتعمية والمراوغة، وإبقاء الأبواب مواربة بينه وبين الناس.

2 ـ ملء الفراغات مسؤولية المُخاطب: فمنتج الخطاب السياسي يعفى نفسه من عبء ترميم الشروخ التي تركها، ويلقي بها على رؤوس المتلقين من الجمهور العريض، بحيث يصبح من مهامهم سد هذا الفراغ بتأويلات متعددة، فإن أخطأوا فيها، أو أراد منتج الخطاب أن يراها خطأ، يكون هو في مأمن من المساءلة والمحاسبة.

3 ـ المعنى المستنتج يتحمله المخاطب: يترتب على مسئولية المخاطب في ملء الفراغ هذا أنه يتحمل هو عبء استنتاج المعاني، سواء كان هذا الاستنتاج واضحا جليا أقرب إلى ما قصده منتج الخطاب، أو كان غامضا مرتبكا. ويعطي هذا فرصة لمن أطلقوا التصريحات والتعليقات والخطب السياسية للتنصل من أي التزام دقيق وقاطع حيال ما تفوهوا به.

4 ـ توافر القابلية للإلغاء. وهو أمر يخص المعاني التداولية، لأن المعاني الدلالية غير قابلة للإلغاء. فمنتج الخطاب السياسي إن وجد أن المعاني التي استنبطها الناس ليست في صالحه، لأنه ستشكل قيدا على حركته وقراره وتؤثر سلبا على مستقبله، فبوسعه أن يخرج من جديد ليمارس إلغاء لهذه المعاني المستنتجة من قبل سامعيه ومتابعيه، فيقول إنه لم يقصد هذا، إنما أساء الجمهور فهمه. ووقتها ينتج خطابا جديدا قد يحمل السمات نفسها التي حملها خطابه السابق إمعانا في التلاعب بالرأي العام.

وبالطبع فقد بذل المحللون والمعلقون والأفراد العاديون، وقبلهم اللسانيون- جهدا لسد هذا الفراغ عبر محاولة الإجابة عن أسئلة من قبيل: من يتكلم؟ ومن يتلقى؟ وماذا قصد من الكلام؟ وكيف نتكلم بشيء ونسعى لقول شيء آخر؟ وما يجب علينا أن نقوم به بُغية تجنب الإبهام في التواصل؟ وهل المعنى الضمني كافٍ لتعيين المقصود جليا؟ لكنهم لا يستطيعون إنهاء الفراغ بشكل كلي وتام، وهو ما تؤكده د. بشرى البستاني قائلة في ثنايا كتابها "التداولية في البحث اللغوي والنقدي": "قضية بناء المعنى كانت المرتكزَ الرئيسَ الذي حفَّز نظرياتٍ وفلسفاتٍ متعددةً على اقتراح طرائقَ مختلفةٍ لملء الفجواتِ والفراغات في النصِّ سبيلاً للوصول إلى استخلاص الدلالات حينما تغيب أو تُحاط بالغموض والغلالات والإبهام، ولذلك وضع فلاسفةُ التداولية شروطاً في غاية الأهمية لاستنتاجه واستخلاص مراميه، منها مبدأُ التعاون بين المتخاطبين من أجل تحصيله حتى وصلت بعضُ الشروط إلى المطالبة بالتحضُّر والتهذيب في الحوارِ من أجل إنجاح عملية التواصل واستمرارها وصولاً بها للغاية المطلوبة. لكنَّ تلك الشروط التي تناولت الاقتصاد والوضوح وتجنُّب الإسهاب واللجوء للمترادفات تعرضتْ للانتقاد لأنها قد لا تلائم كلَّ المقامات التي يتمُّ فيها التواصل".

معنى هذا أن الفراغ في الخطاب بشكل عام، والسياسي بصفة خاصة، يبقى قائمًا، وإن ضاق قليلا؛ لأن المعنى قد يتم تداوله بلا حصر، فضلا عن تغيره من حال إلى حال، ومن مقام إلى آخر، ما يضفي قدرًا كبيرًا من الالتباس والغموض على الخطاب السياسي، قد يكون مقصودًا، بل، على الأرجح، إنه كذلك!

إعلان