إعلان

حكايات جار النبي الحلو.. نموذج لانتقاء "مختارات قصصية"

د. عمار علي حسن

حكايات جار النبي الحلو.. نموذج لانتقاء "مختارات قصصية"

د. عمار علي حسن
09:02 م الأربعاء 22 يناير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لا يحتاج قارئ "حكايات جار النبي الحلو" إلى طويل عناء أو عميق تفكير كي يدرك أنها لم تلتقط هباءً، أو يتم اختيارها دون اعتناء من كاتبها ليضمها كتاب واحد يشكل مختارات من خمس مجموعات قصصية، أبدعها، ثم أصدرها قبل ظهور حكاياته تلك التي رأت النور، منها طبعتان الأولى عام 1997، والثانية عام 2004.

فالقصص تمضي من أولها إلى آخرها، في أناة وتمهل، على درب مهده الكاتب، حين قرر أن ينتقي من جملة أعماله في فن القصة القصيرة، وقتها، ما يتتابع لا ليعبر فقط عن انحيازه الأدبي هو كمنتج للنص، إنما أيضا عن جانب مما يقتضيه صدور مختارات بجعلها هينة لينة أمام قارئها، حين يجد نفسه غير مشتت بين ألوان مختلفة أو متنافرة من القص، قد يكون مردها أن الأديب تعمد أن يأتي بكل ما يمثل مراحل تطوره الفني، إن كان هذا قد جرى بالفعل، أو جمع القصص الأقرب إلى نفسه، أو التي راقت للنقاد أو القراء.

ويقوم الترابط بين قصص جار النبي جميعا على عدة عناصر، أولها وجود صوت واحد يروي في بساطة وعذوبة، هو الطفل الصغير الكبير المجذوب إلى الدهشة دوما، والساعي في لهفة إلى اكتشاف كل ما حوله، والمائل بكل كيانه إلى السكينة والدفء الأسرى والحنان غير الزائد على الحد، لكنه ذلك الذي يعين على وجود حياة طبيعية.

وهنا لا تجد مشقة في إدراك أن الطفل الراوي هو الكاتب نفسه، حتى قبل اعترافه بأن جزءًا من هذه الحكايات قد حدث بالفعل له في أيام طفولته، وأن بعضها قد تناثر، واتسع، وامتد، وتعمق في أعماله الروائية أيضا.

والعنصر الثاني هو وحدة المكان، فالقصص تدور في طرف مدينة المحلة الكبرى خلال زمن بعيد، حيث يوجد بيت بسيط جميل يطل على ترعة وسيعة، يقطنه الراوي مع أسرته المكونة من أبٍ وأمٍ وبنتين وولدين، حسبما تبين القصص في مضمونها الكلي. وهذا المكان هو المركز الذي تجري فيه وحوله أغلب الأحداث، وهو نقطة الانطلاق التي يتحرك منها الطفل- الراوي إلى أماكن بقرى ومدن مجاورة على رأسها مدينة طنطا؛ حيث مقام الصوفي الشهير السيد أحمد البدوي، ثم يعود إليها في نهاية رحلاته القصيرة، ليلهو، ويتعلم، ويصاحب أقرانه من الجيران وأهل الحي القريب أو زملاء الدراسة أو الغرباء الذين يأتون مع أهليهم من عمال التراحيل.

لا أبالغ إن قلت إن الكاتب ظل مسكونا بهذا المكان في قصصه، بل في رواياته أيضا، لا يكاد يفارقه حتى يعود إليه في شوق وامتنان، إذ إنه لا يمثل بالنسبة له مجرد بقعة أرض وموئل أو موطن صغير محدود، إنما هو نبع الحكايات والذكريات والصور والتأملات والعلاقات الإنسانية والتعلق بالأشياء والرموز. وليس أولى من الكاتب نفسه كي يصف لنا معالم هذا المكان الأثير لديه، والمؤثر فيه، حيث يقول عنه في شهادة له عن تجربته الأدبية: "بيتنا على نهر، هو بيت وحيد، طابق واحد وسطح" وقبلها قال في حوار معه: "المحلة بنهرها ووجوه عمالها وفلاحيها، والمهمشين، والصنايعية، حطت في روحي، إنه الاختيار لمكان يخصني فكتبت عما يخصه، تشربته وحملت همه وطقوسه وكنت منذوراً".

أما العنصر الثالث للامتزاج في هذه القصص هو تكرار الشخصيات داخلها، ففضلا عن الراوي يطوف بنا السرد بين أفراد الأسرة، ومنهم ينتقل إلى العائلة الممتدة قليلا، حيث العم وزوجته والعمة والجدة وزوج الأخت... إلخ. فعلى ألسنة هؤلاء، وبفعل تدبيرهم، تمضي الحكايات جميعا، وتصنع على أكفهم، وأمام عيونهم، وهم يتفاعلون مع الأقارب والأباعد بدرجات متفاوتة.

والعنصر الرابع هو الزمن، فالكاتب من مواليد عام 1947، وصدرت مجموعته الأولى "القبيح والوردة" عام 1984، ثم توالت المجموعات التي تغرف منها هذه المختارات حيث صدرت "طعم القرنفل" عام 1986 و"الحدوتة في الشمس" عام 1989 و"طائر فضي" عام 1990 و"قمع الهوى" عام 1994.

هذا معناه أن المجموعة الأولى صدرت، بينما كان عمر الكاتب يصل إلى ستة وثلاثين عاما، بينما نشرت المختارات وعمره قد وصل إلى الخمسين عاما، وكانت هذه المساحة الزمنية الممتدة كفيلة بأن تجعل أزمنة القصص متتابعة منذ بدء الكتابة لدى المؤلف وحتى صدور المختارات، وهذا ما وقع بالفعل في المجموعات كافة، لكن المختارات دارت في زمن واحد أو توالت أحداثها عبر مدد متقاربة إلى حد كبير؛ إذ إنها في الغالب الأعم نتاج التذكر أو هي بنت حنين الطفل الذي كبر إلى ماضيه، إن كنا سنطابق بين المؤلف والراوي حتى يصيرا شخصا واحدا، فإن باعدنا بينهما يكون بوسعنا القول إن الكاتب ينزع دوما إلى استدعاء ما فات قبل سنوات، ولذا اختار راويه طفلا، فأوقف زمن القصص عند طفولته تلك، التي كانت حافلة بوقائع وأحداث متتابعة ومتشابكة تصلح مادة لحكايات عديدة.

إن التتابع أو التسلسل الزمني ظاهر إلى حد ما في هذه القصص، وهو ليس بالضرورة زمن الكتابة، كما سبق التوضيح، إنما زمن وقوع الحدث أو جريانه. والتلاقي في الزمن الواحد والمتقارب يتبدى في المعنى العام أو الموضوع الكلي الذي تشغله هذه القصص التي تم اختيارها بعناية.

والعنصر الخامس هو وحدة الأسلوب أو تشابهه وتقاربه إلى حد كبير، فالراوي الطفل كان عليه أن يكون بسيطا ومباشرا، مقتصدا في البلاغة لكنه قادر في الوقت نفسه على صناعة صور عفوية أحيانا، تكافئ دهشته أثناء إدراكه تباعا لما حوله، وخلال محاولته الإجابة عن أسئلة تشتعل في رأسه عن سلوك البشر وطبيعة علاقاتهم وكيف يتحايلون ويدارون ويتلاعبون ويواجهون الحياة بشؤونها وشجونها وتصاريفها وأقدارها. كما جرى الحوار ومسار السرد والنقلات بين المواقف التي ترسم ملامح الحكاية كاملة بالطريقة نفسها في القصص جميعا إلى حد واسع، يجعل الاختلاف عن هذا مجرد استثناء يثبت القاعدة ويقر بها ويعززها.

والعنصر السادس هو تداخل الأحداث في تفاصيلها الصغيرة، بما يجعل القصص أشبه بحلقات تتواصل في بعض الحالات كحبات عقد ثمين، وفي حالات أخرى تتلاقي وتتقاطع في أجزاء منها، متفاعلة ومتشابكة، لتمثل برمتها ذلك العالم الذي ينهل منه الكاتب، ويتحرك داخله، ويرسم ملامحه، وقد يشكل بالنسبة له الزاوية التي يقف فيها، موزعا بين قلق واطمئنان، كي ينظر إلى الحياة برمتها.

أما العنصر السابع فيتعلق بوحدة المضمون، فالقصص جميعا تصور مسلكا اجتماعيا محددا، حيث تعيش أسرة رقيقة الحال حياة عادية، نجد تفاصيلها حاضرة بنعومة في القصص التسع والعشرين التي تضمها المختارات، حتى إننا لا نجد صعوبة في تعيين وتأطير الحكاية الأساسية الممتدة في كل القصص، رابطة بينها في وضوح وجلاء.

فمن ولد وبنتين يلتقطان صورة كتذكار، إلى أسرة تنتظر "أم وداد" الخاطبة كل يوم جمعة، وولد يسافر مع أخته في رحلة قصيرة بالقطار، وأب يجلس خلف الباب وفي يده كرباج منتظرا ابنه الصبي الساهر خارج المنزل كي يعاقبه، بينما أمه تحدب عليه، ثم مشاجرة بين أختين، وبعدهما جدة تحضر هدية لحفيدها وتحكي له حكايات، وأب شجاع ينقذ غريقا في النهر، وطقوس ليلة العيد، ومخاوف أيام الحرب ولياليها، وواقعة حفر بئر، وأساطير متداولة بين الصغار عن الموت، ودهشة الولد من تلاعب زوجة العم، ومكابدته المرض في وجه غجري غريب جاء إلى المدينة البسيطة، بعدها يستمتع بحكايات الجارة، ويلعب بشعرة ذيل حصان يجر عربة رش المياه التي يعمل عليها زوج الأخت، ويلعب بعدها بعصفور طليق فوق النهير، الذي لم يلبث أن يفقده حين يتم ردمه في أيام كئيبة، أحدها ذلك الذي عاش فيه مع أبيه لحظات عصيبة حين فقدا تذكرتيهما في القطار ولم يكن معهما نقود، ثم لم تلبث أن تأتي أيام أخرى من اللعب مع ذلك الولد الغريب ابن مقاول الأنفار القادم من جوف الصعيد إلى المحلة، وبعدها يتكرر اللعب بطريقة مختلفة بغية بناء بيت السكر مع المدرس الفقير، والاهتزاز فوق المركب مع الصياد في النهير الآخر الذي بقي، والبكاء مع الأم التي تتعرض لابتزاز في السوق، واستعادة المركب مع الأخت، لكنه هذه المرة من الخرز الملون، ثم استعادة الأسى مع الأخت التي يضمر جسدها وتصير قزما يستحق الرثاء، والعيش فترات مفعمة بالتساؤل في فصول الدراسة، ومفعمة بالرغبة في اللهو بالماء خلال ساعات القيظ.

من هنا يكون بمكنتنا مع مضمون هذه القصص وشكلها أن نرى جانبا مهما من الوجه الكلي لمسار الحلو الأدبي، إذ إن رواياته وحتى كتاباته للأطفال لم تهجر هذه العوالم في أمكنتها وشخوصها، فيما استمر واستقر أسلوبه الذي يميل إلى اليسر، حاملا في جوفه غنائيته الخاصة، وفصاحته غير الزاعقة، وتعبيراته التي تنساب كما النهير الصغير الذي اعتاد الكاتب رؤيته والجلوس عنده وتأمل جريانه في طفولته البعيدة, ولهذا يكون الكاتب قادرا طيلة الوقت على أن يأخذك بين الصفحات دون تعثر ولا ملل.

إن نقد مجموعة قصصية يصعب مع تنوع أساليب قصصها مفردة أو منجمة، واختلاف عوالمها ومضامينها وأبطالها وشخوصها الثانويين أو الهامشيين، ومسارها ومآلها، وتغير البدايات والنهايات، المغلقة منها والمفتوحة، والمطابقة منها للواقع والمفارقة له, ولذا فإن من باب أولى أن يزداد الأمر صعوبة مع المختارات التي تأتي متناثرة مأخوذة من مجموعات كتبت في أزمنة متفرقة، وقد يكون الكاتب قد تغير أسلوب كتابته خلال هذه المدة الطويلة أو نضج، وتغيرت اهتماماته، ونظرته إلى ذاته والمجتمع والعالم.

لكن في المختارات التي نحن بصددها نجد أن كاتبها قد بذل جهدا فائقا في سبيل ترتيبها وتنظيمها على نحو يصنع لها نقطة مركزية يمكن الانطلاق منها في قراءتها، وهي قد لا تزيد على العين التي يرى بها طفل مندهش المكان والناس، فكل مضمون قصة هنا يسيل في اتجاه هذا المجرى، الذي حفره الكاتب- الراوي دون تكلف ولا مواربة، حتى إن الكاتب يصف هذا العمل بأنه "رواية"، حيث قال في شهادة له للحاضرين: "لا أُخفي عليكم أن لي رواية أخرى هي (حكايات جار النبي الحلو)، فهي ليست حكايات منفصلة كما نظن، إنما هي رواية دوَّنت فيها كل صدق صباي ودهشتي واكتشافي لعالمي هذا الذي اكتنزته لأكتب رواياتي".

وبالطبع، فإن الأمر ليس كذلك بدقة واكتمال لكنه دليل قوي على الانسجام بين القصص المختارة في هذا الكتاب، وبرهان أيضا على أن جار النبي الحلو يحفر في مكان واحد، وذاكرة واحدة، وأزمنة متعددة، لينسج خيوط مشروعه الأدبي على مهل، مثلما تفعل ماكينات النسيج في مصانع المحلة التي تربى على مرمى حجر منها.

وربما سهل على كاتبنا الكبير مهمته هنا أنه ظل على مدار زمن طويل منحازا، في الغالب الأعم، لطريقة في الكتابة، وينهل من بيئة اجتماعية واحدة، ويؤمن بمنظومة قيم تتسم بالرسوخ النسبي، ويمتلك تعبيرات ورؤى فنية استقرت في سطور نصوصه، فبات مستريحا لها، وصارت جزءا أصيلا من هويته الأدبية، إن صح التعبير، والتي حضرت في مجموعاته القصصية كافة، حتى لو انطوى بعضها على تعدد أو تنوع نسبي للمضامين والعوالم وطرق السرد والتشكيل الفني أحيانا.

إعلان