إعلان

الشرطة المصرية.. من الانهيار إلى النهوض والتفوق

حسين عبدالقادر

الشرطة المصرية.. من الانهيار إلى النهوض والتفوق

حسين عبد القادر
09:03 م السبت 25 يناير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

جمعتني الصدفة في لقاء مع عدد من أبرز خبراء وقيادات الأمن في العالم، وذلك بعد شهور من أحداث 25 يناير 2011.

كان اللقاء على هامش مؤتمر لمكافحة الإرهاب في العاصمة الجزائرية، وتطرق النقاش بيننا وبين هؤلاء الخبراء إلى تسجيل إعجابهم الممزوج بالدهشة لنجاح الشرطة المصرية في إعادة النهوض، واستعادة قدرتها على السير وفرض الاستقرار وتأمين الشارع المصري، على الرغم مما تعرضت له من مخطط ممنهج لإسقاطها، ما أدى لانهيارها خلال أيام.

كان سر دهشة هؤلاء الخبراء- ومنهم قيادات أمنية كبيرة في أوروبا- أن ما تعرضت له قوات الأمن في بعض البلاد، على غرار ما حدث للشرطة المصرية، استوجب سنوات لإعادة تأهيلها واستعادة كفاءتها مرة أخرى.

وكما قالوا لي نصا: "ما حدث مع الشرطة المصرية واستعادة كفاءتها خلال أسابيع معدودة يعد بالفعل معجزة، خاصة أنه كان من المفترض خضوع كل هذه القوات للتأهيل والعلاج النفسي كجزء من إعادة بناء القوات". وضحكت داخل نفسي، فنحن في مصر لم نصل بعدُ إلى هذه الرفاهية.

بعد انتهاء اللقاء وجدت نفسي قد انعزلت عن الجمع الموجود؛ حيث شرد ذهني كي أستعيد ذكرياتي مع هذه الأيام، وحيث كان وجودي بحكم عملي الصحفي كمحرر أمني مسئول عن تغطية أنشطة وزارة الداخلية، وبحكم سنوات عملي الطويلة معهم أتيح لي الاقتراب والمشاركة دون حواجز، وكأني واحد منهم... تذكرت وجودي داخل مقر وزارة الداخلية في مقرها القديم بشارع الشيخ ريحان بعابدين، في وسط القاهرة.

كانت الأحداث مشتعلة في ميدان التحرير على بعد مئات الأمتار. وكذلك في ميادين معظم المحافظات كانت التقارير الواردة من غرف العمليات والقادة الميدانيين صادمة، بعد احتراق وتخريب العدد الأكبر من مقار الشرطة وانقطاع الاتصالات بين القيادات وقواتهم التي بدأت تنهار رويدا رويدا مع تعرضها للحصار والمطاردة من المتظاهرين وسقوط عشرات من الشهداء ومئات المصابين... أتذكر في هذه اللحظات حوارات اللاسلكي التي كنت أسمع بعضها بين القادة الميدانيين وغرف العمليات؛ كان يستغيثون مما تتعرض لها القوات، ويطلبون الدعم، ولكن كان الرد للجميع أمّن نفسك وسلاحك، وانسحب.

لم تكن هناك إجابة أخرى. فقد فقدت السيطرة التامة على القوات حتى المخصصة للدعم... أما داخل مقر الوزارة فلم يعد بداخله سوى أعداد قليلة، منهم الوزير حبيب العادلي وقلة من مساعديه بلا حول ولا قوة، تحت ضغط محاولات الاقتراب واقتحام المقر، ودفعات من طلقات الآلي التي تطلق من قرب على مبنى الوزارة، خاصة باتجاه الطابق السادس، حيث يقع مكتب حبيب العادلي.

تأزم الموقف أكثر ليصبح أكثر حرجا؛ فلم يقتصر حرج الموقف على انهيار القوات في الميادين واقتحام مقار الشرطة وحرق سياراتها، وإنما بات مقر الوزارة ذاته مهددا بالاقتحام من قبل مجموعات تختلف كثيرا في هيئتها وسلوكها عن الموجودة في ميدان التحرير؛ حيث الشعور الوطني الذي ينادي بالفساد والتوريث، ويذيع الأغاني الوطنية، أما محاولو اقتحام مقر الوزارة، فكانت هتافاتهم بالألفاظ النابية وإشارات اليد الإباحية هي المميزة لهم.

لم ينقذ الأمر في الوزارة إلا وصول قوات الجيش التي طوقت المكان، وبدأت عمليات التأمين وإخراج حبيب العادلي من داخل وزارته في سيارة مدرعة تابعة للجيش، انطلقت بسرعة شديدة للهرب به؛ خوفا من أن تطاله أيادي المتظاهرين الغاضبين في كل مكان... لم يعد يبقى في مقر الوزارة سوى عدد محدود جدا من الضباط، ربما اقتصر على ضباط قطاع الإعلام والعلاقات، برئاسة المرحوم اللواء حمدي عبد الكريم، واللواء هاني عبد اللطيف، وقد اقتصر دورهم علي متابعة الموقف ورصده وإعداد تقارير، وكان من الإخلاص والانتماء أن رفضوا ترك مقر الوزارة المهجور حتى صدرت لهم تعليمات الجيش بالإخلاء؛ حرصا علي حياتهم.

ومع بدء انتظام العمل، بعد أيام قليلة كان هؤلاء أول من عادوا ليبدأوا مع اللواء محمود وجدي الذي اختير وزيرا للداخلية برنامج إعادة تنظيم قوات الشرطة وتأهيلهم.

كان أول شيء هو إعادة بث الثقة في نفوس القوات أفرادا قبل الضباط، والمطالبة بالتحلي بالصبر وضبط النفس خاصة مع المضايقات التي كانوا يتعرضون لها في الشارع، وكانوا غير قادرين على أية مواجهة في ظل حالة الانكسار السائدة.

بدأت أولى جولات الوزير مع معسكرات الأمن المركزي وقوات الأمن باعتبارهم العمود الفقري لقوات الشرطة ودرعها، ثم جولات في مديريات الأمن، ثم بدأت أعمال ترميم عاجلة للمقار المحترقة، وتخصيص مقار مؤقتة بديلة للمنهارة تماما، ثم بدأت عمليات الانتشار الأمني المتحرك بواسطة أقوال جماعية تطوف شوارع الأحياء والطرقات ساعات الليل والنهار، وهي تطلق سرينة الشرطة العالية لبث الطمأنينة في نفوس المواطنين القلقة، خاصة بعدما تعرضوا لها من توابع الانهيار الأمني وفرض مجموعات الخارجين على القانون سطوتهم وبلطجتهم دون رادع على الآمنين، بخلاف هروب عشرات الآلاف من السجناء، وبينهم عتاة الإجرام،

ودعم جهود الشرطة بدء وصول سيارات الشرطة الجديدة، بدلا من المحترقة.

كان العمل في وزار ة الداخلية وقطاعاتها الجغرافية المختلفة والمتخصصة ليلا ونهارا. وكان هناك التحدي داخل نفوس الجميع، رغم تضاعف حجم المخاطر، خاصة مع بدء المواجهة الحقيقية لاستعادة الأمن، من خلال توجيه الحملات لتصفية البؤر الإجرامية التي تأسست في أماكن كثيرة، وتم تدعيم عناصر هذه البؤر بالهاربين من المسجلين وأحكام المؤبد والإعدام الهاربين من السجون، وساعد هؤلاء جميعا حيازتهم أخطر الأسلحة، ومنها الثقيلة المسروقة من الشرطة ومقارها أثناء الأحداث.

لم يكن أمر هذه المأموريات والحملات لضبط الهاربين من السجون وبؤر الجريمة سهلا؛ فقد شاهدتُ كصحفي الموت المحقق مرات عديدة أثناء المواجهات الأمنية لاستعادة الأمن والأمان... لقد كانت معارك شرسة تلك التي تقودها العناصر الإجرامية التي تصر على استمرار الفوضى... كانت تقاوم بضراوة تحت شعار الموت خير من العودة للسجون والاستمرار بها حتى الموت أو الإعدام.

شهور قليلة، وتحققت المعجزة التي أذهلت العالم... لقد تجاوزت قوات الشرطة حالة الانهيار والانفلات الأمني، ونجحت في إعادة النهوض واستعادة السيطرة وفرض الأمن في البلاد.

إعلان