إعلان

أيام باريس .. زكى مبارك وتلك التفاصيل البهية ..

د.هشام عطية عبدالمقصود

أيام باريس .. زكى مبارك وتلك التفاصيل البهية ..

د. هشام عطية عبد المقصود
09:01 م الجمعة 03 يناير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تمثل المذكرات والذكريات حالة قراءة لها متعتها الفريدة، خاصة إذا كانت مانحة لدلالات موسعة لزمانها وبيئتها وشخوصها، فتصير بمثابة إعادة تشخيصٍ لفترة ما من رؤية كاتب المذكرات، وبالطبع كلما انفتح كاتبها على العالم من حوله نظرًا وتأملاً، ومزج ذلك بتجربته الذاتية في الإدراك والتعبير جاء النص يحمل حرارة البقاء طازجًا أبدًا، فتزداد القيمة التاريخية والأدبية له.

وهكذا فعل الدكتور زكى مبارك في كتابه الرشيق الذى يقص شيئًا جميلاً عن باريس والقاهرة في فترة تاريخية هي سنوات نهاية حقبة العشرينيات من القرن الماضي، حين كان يدرس في باريس، وقد عبر عن تلك المرحلة كتابه الجميل: "ذكريات باريس"، ومكتوب على غلافه أنه يُطلب من المكتبة التجارية الكبرى بأول شارع محمد على بمصر، لصاحبها مصطفى محمد وأنه طبع في المطبعة الرحمانية بمصر، ويهديه المؤلف إلى عبدالقادر حمزة صاحب وناشر جريدة البلاغ الشهيرة التي عبرت عن الوفد وقتئذ واصفا إياه: بالصديق الذي وصل جناحي، وراش سهمي، وينتهي بتاريخ كتابة الإهداء ومكانه في مصر الجديدة في 18 أغسطس سنة 1931.

والدكتور زكى مبارك حصل على الدكتوراه في الجامعة المصرية عام 1924 ثم دبلوم الدراسات العليا من المدرسة الشرقية بباريس ودكتوراه الآداب عام 1931، وهي فترة ذكرياته التي دونها في هذا الكتاب، وله مؤلفات أدبية وتراثية مهمة منها: النثر الفني في القرن الرابع والتصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق وعبقرية الشريف الرَّضي وغيرها من المؤلفات المهمة، وقد عمل مفتشا بوزارة المعارف المصرية، ثم سافر للعراق وأمضى بها فترة زمنية، أنتج فيها بعضًا مما تأثر به من سياق تواجده في بغداد، وتم تكريمه بوسام الرافدين، وقد كان أحد كتاب جريدة البلاغ المؤثرين، والتي رغم طابعها الوفدي، فقد سمح له صاحبها بأن يأخذ منهجًا مستقلاً بل ومعارضًا لتيارها الوفدي العام، وقد عاش يحمل مرارة عدم التقدير لما اعتبره مكانة ودورًا يستحقهما، ولم يحصل عليهما، وقد ظهر ذلك دوما في كتاباته.

ونتجول هنا في حدائق هذا الكتاب الرشيق الذي يمنحنا صورة لباريس تلك المدينة التي خلبت ألباب كبار مثقفي مصر، وكانت مؤثرة في رؤيتهم للحياة عامة وللشأن الثقافي والأدبي في مصر، وكما جسدته السيرتان الذاتيتان لكل من طه حسين وتوفيق الحكيم، وسواهما من الكتاب والأدباء في تلك الحقبة.

يبدأ الكتاب من رحلة المؤلف على متن السفينة وهي تغادر الإسكندرية، ثم يمضي؛ ليؤرخ لأيام باريس، فتحت عنوان: باريس 3 يوليو 1930 يقدم إدانة للتفلسف في رؤية الحياة دون خوض غمارها تهيبًا أو خشية "الإنسان حيوان مخدوع .. والحكماء في العالم كله قوم أفنوا أنفسهم وخسروا شبابهم، ثم أقبلوا يتحدثون إلى الناس بما يجب أن تتحلى به مجموعة الحيوانات التي تتكون منها الفصيلة الإنسانية، ونحن حين نستمع لأقوال الحكماء في صمت وخشوع لا نفعل ذلك اعترافًا بفضل الحكمة، بل نقبل بأنفس مهددة بنفس المصير الذي تخوفنا منه حكمة الحكماء".

وهو يمضي في ذكرياته حاملاً داخله تأثرًا بالمكان الذي قدم منه، ثم المكان الذي حل فيه فتأتي المقارنات تحمل أثرًا ثقافيًا خاصًا، ففي خطاب أرسله لصاحبه القاياتي يحكي عن المقاهي وأحوالها عاقدًا مقارنة بين مقاهي القاهرة وباريس، ويمكننا هنا أن نلتقط إشارات عن تأريخ للمقاهي وأماكن تجمع الطبقة الوسطى المثقفة، وأسماء روادها المعروفين يقول: "وأعود فأقول إنك ذكرتني بقهوة الحلمية.. ولا أعرف لأي سبب هجرتم من أجلها قهوتكم الأولى التي كانت تسمى دار الآداب، وخير منها قهوة أحمد عبده في حي سيدنا الحسين، وليس فيها أيضا شيء من سمات الحاضر، فليس على جدرانها صور ولا خرائط، ولا لوحات فنية وليس فيها، قانون ولا عود، ولا يخطر ببال أهلها أن يستقدموا لها ولو مرة في السنة بديعة أو نعيمة أو أم كلثوم، ومن المحتمل فقط أن يكون صديقنا الأستاذ رامي، يطرفكم فيها ببعض أغانيه وتغريداته".

وهو لا يرى باريس من منظور واحد مطلق، انبهارًا ودهشة، بل يرى أيضًا ما يعتبره جوانبها المظلمة فتحت عنوان: "ضحايا السين" يكتب: "لا نتحدث هنا عن ضحايا الحب وإنما نتكلم عن ضحايا الفاقة والبؤس.. يعيش أهل باريس في التطلع لبعضهم البعض، وحسد من يجد لقمته في الصباح وحساءه في المساء.. وليس في الدنيا مدينة يموت فيها الإنسان جوعًا إذا نفذت دراهمه غير باريس وتشبهها لندرا وبرلين".

وينتقل بنا نحو رصد حالة التسكع وما يترتب عليها من سلوكيات في الشوارع الباريسية " في باريس طائفة كبيرة من أهل البطالة والفراغ كثيرة التطلع لحوادث الطريق، تراهم يتجمعون تجمع النحل في لحظة واحدة إذا تصادمت سيارتان، أو وقف بائع متجول يعرض بضاعته".

ثم يمضي بنا في حدائق ذكرياته ساردا وجع الغياب، فتحت عنوان باريس 29 يوليو 1929 يحكي شيئا عن تحولات مصائر البشر: "في طريقي إلى المنزل حديقة صغيرة يؤمها الناس من مختلف الطبقات، وأنا أخترق تلك الحديقة عند الغروب لمحت طائفة من الجرائد المصرية في يد إنسان لا أعرفه، هذا شاب قصير نحيل متضعضع مهدود، أنت هنا منذ زمان؟ منذ عشر سنين، وماذا تصنع، عامل في أحد المصانع أنا محمود بيرم التونسي.. وقلت له اسمع يا محمود أفندي سأكتب عنك مقالة، رد هل ستكتب عن بيرم بعد أن نسيه الناس!".

إعلان

إعلان

إعلان