إعلان

تجديد الخطاب الديني

د. محمد عبدالباسط عيد

تجديد الخطاب الديني

د. محمد عبد الباسط عيد
07:00 م الجمعة 20 مارس 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لا يُوجد مفهوم أثير حوله الجدل في الآونة الأخيرة مثل مفهوم "الخطاب الديني"، رغم وضوح دلالته على المراد منه، فقد وجه إليه الاتباعيون دعاية مضادة، تعمّدت تشويهه، وإيهام عموم الناس أنّ المراد منه هو مناقشة الدِّين نفسه، وليس الفهم التراثي الإنساني للقرآن الكريم وصحيح السُّنة، وهذا ما يمكن وصفه بالحرب على المفهوم، وإرهاب من يقول به أو يدعو إليه، ويحدث ذلك حين يأخذ النقاش بُعْدًا اجتماعيًّا شعبيّا موسعًا، وقد حدث ذلك كثيرًا في ثقافتنا، قديمًا وحديثًا، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحْصى... لقد فرض هذا التشويه على كل كاتب في تجديد الخطاب الديني أن يستهل كلامه بالحديث فيما هو بدهي؛ إذ يُضطر إلى تعريف المُعَرّف، وتوثيق كلامه بالشواهد من أقوال القدماء من الفقهاء والمفسرين، باعتبارهم أول من دعا إلى التجديد؛ فقد رُوي عن مالك قوله: "إنّما أنا بشر أُخْطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسُّنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه."

فتجديد الخطاب الديني يُقصد به مراجعة هذا التّراث والبناء فوقه، باعتباره اجتهادًا إنسانيًا، في سياق تاريخيّ واجتماعيّ مُحدد، وكونه يدور حول القرآن والسّنة لا يمنحه صفة القداسة، ولا يلزمنا اتباعه والتقيد به... فبدهيّ أنّ كلّ قول إنسانيّ جزءٌ من ثقافة عصره وزمانه، ومن الطريقة التي يعمل بها العقل، واجتهاد أسلافنا الأكارم هو وعيهم الذي شكلته ثقافتهم وتقاليدهم الاجتماعية، ورؤيتهم للحياة والعالم، وهذا كله متغير، وهو في عصرنا أكثر تغيرًا مما كان قديمًا، حتى ليصح القول: إن مجتمعاتنا اليوم - ثقافتنا ومعارفنا ومطالبنا- لا تشبه مجتمعات الأسلاف، ولا تتصل بها في كثير أو قليل. لقد تغير كُلّ شيء، وبات التغير الاجتماعي والمعرفيّ كاسحًا، وهذا يعني أن الدعوة إلى التجديد دعوة مستمرة، فكل قراءة منجزة ستغدو موضوعًا لقراءات أخرى، فالتجديد هو الثابت، وهو يتلازم دائمًا مع تغير المجتمع وتغير حاجاته.

فمجتمعاتنا اليوم تواجه قضايا عديدة، بعضها مما ناقشه أسلافنا ولم يعد ملائمًا لنا، وبعضها لم يخطر لهم على بالٍ، وهذا أيضًا بدهيٌّ، ولا ينتقص من قدرهم، وليس عليهم أن يجتهدوا للذين سوف يأتون بعد ألف عام، وليس علينا ونحن نجتهد اليوم أن نزعم أن ما نقدمه يصلح لمن سوف يأتون بعدنا.. لقد تغيرت على سبيل المثال العلاقة بين الرجل والمرأة، وصارت المرأة تعمل وتُنْتج، وتقتسم مع الرجل إعالة الأسرة، وقد تعولها بمفردها في ظروف خاصة، وهذا واقع جديد تمامًا، يحتاج وعيًا فقهيًا مغايرًا، وقل الأمر نفسه عن العلاقة بين المسلم وغير المسلم، وكيف صرنا مواطنين في وطن واحد، لا فرق بيننا أمام القانون؛ فلم يعد المسيحي في ذمّة المسلم، ولم تعد الجزية فكرة ملائمة، وهذه كلها أحكام فقهية، تؤسس لماضٍ لم يعد له وجود.. كما لم يعد الوطن مجرد (أرض) يمكن للمسلم أن يهجرها إلى أرض غيرها واسعة، لقد غدت الأرض في الفهم المعاصر وطنًا، وهذا مفهوم حديث، ينطوي على دلالات تتصل بالسياسة والجغرافيا والثقافة... وصار واجبًا على كل من يعيش على هذه الأرض/الوطن أن يحميه ويدافع عن كامل ترابه، حتى لو كان مجرد مساحة ضئيلة جدًا تقع في أقصى حدود هذا الوطن.

كما تغيرت في هذا الوطن العلاقة بين الحاكم والمحكوم؛ فلم يعد الحاكم خليفة، ولم يعد وليًّا للأمر، وإنما صار موظفًا إداريا منتخبًا، يسيّر الحياة، بناء على برامج محددة، يختاره الناس لفترة محددة... وهذا يعني أن الفهم القديم الذي يخلط الدين بالسياسة لم يعد مناسبًا.

وكل هذه القضايا وغيرها مما يجب حوله النقاش، وهي كما ترى، لا تتعلق بالمعتقدات ولا العبادات، والحقيقة أنه لم يناقش أي باحث في تجديد الخطاب الديني العبادات أو المعتقدات، فلم يقل أحد مثلا: إن لديه مشكلة مع صلاة الظهر، ولماذا هي أربع ركعات...؟! فالكلام حول تجديد الخطاب يتعلق بمشكلات تتصل بالجانب التشريعي، بما هي (قوانين تنظيمية) وليست شعائر تعبدية، وبما هي آليات تحقيق المقاصد الكلية للدين، وهي في مجملها مقاصد اجتماعية، يمكن مناقشتها وتطويرها، ولا يمكن بطبيعة الحال التضحية بالغاية من أجل الوسيلة، وليس من الحكمة ولا من المصلحة أن نفعل ذلك.

من المهم هنا أن نذكر أن الدعوة إلى تجديد الخطاب ليست جديدة؛ فلدينا عشرات الأسماء التي اجتهدت طوال القرن العشرين وما قبله وحتى الآن، ولكنها أخذت بعدًا شعبيًا عقب تبني الرئيس السيسي لها في 2014م، لقد جاء ذلك في سياق سياسيّ شديد الانقسام، وبالتالي انقسم الناس حولها، وتعرضت للتشويه من قبل القوى الدينية المناوئة للنظام، كما تعرضت للرفض من قبل الأزهر، صحيح أن الرئيس لم يبلور مفهومًا واضحًا للتجديد، وهذا ما مكّن خصومه من تشويه دعوته ومفهوم التجديد معًا، وحين اقترح الرئيس استبدال الطلاق الموثق بالطلاق الشفوي- وكانت قضية واضحة وعادلة- تمكن الأزهر بعد سجال أخذ بعدًا شعبيًا من وأد الدعوة، وحسمت هيئة كبار العلماء الأمر حين رفضته بالإجماع.

إعلان