إعلان

 الهوية الجمالية...  أبوتَمَّام..!

د. محمد عبدالباسط عيد

الهوية الجمالية... أبوتَمَّام..!

د. محمد عبد الباسط عيد
07:32 م الجمعة 17 أبريل 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لا أريد هنا أن أشغلك باختلافات الدّارسين حول نسب أبي تَمّام (حبيب بن أوس بن الحارث الطائي)، أعربيّ مُسْلم أم يُونانيّ نصرانيّ؟ فما أسعى إليه هو أن نتعرف معًا على شعر أحد أهمّ شعراء العربية الأوائل، وليس ذلك لأن أبا تمّام شاعر مجهول أو قليل الحظّ من الشهرة ويحتاج من يعرّف به؛ فما من شاعر شغل القدماء والمحدثين، ونال الشهرة في حياته وبعد مماته كأبي تمّام... وإنما لأنّني أريد أن نقف سويًّا على شيء من جمال العربية، في زمان اضطربت فيه هويتنا الجمالية، وتراجع فيه دور النقد اجتماعيًّا، وصار قاصرًا على جماعة النّقاد والمبدعين يحدثون بعضهم بعضًا في دوائر مغلقة أو كالمغلقة، وبات تراثنا- بكل حقوله المعرفية والإبداعية- ميدانًا لسهام طائشة منفعلة، أعياها الواقع المرّ، والتراجع المخيف الذي ينذر بما بعده، فظنّت –وبعض الظن إثم– أن بغيتها في التّراث؛ فوجهت سهامها إليه، لا لتنقده وتبني فوقه مجدها المنشود، وإنما لتزيحه وتشوه معالمه، فوقعت في اضطراب أشدّ؛ إذ لم تلحق بتراث غيرها، ولم تُبقِ على ما في أيديها.

ولد أبوتمّام شاعر العربية الفَذّ –على أشهر الآراء- في (188- 231 هـ / 803-845م)، وهذا يعني أنه توفي –رحمه الله- وهو دون الأربعين من عمره، وفي هذه الرّحلة القصيرة، استطاع أبوتمّام أن يقفز بالقصيدة العربية قفزات غير مسبوقة، ولم تعد بعده كما كانت قبله؛ فقد تزوّد الرجل بكل ما كان متاحًا في زمانه من ثقافة، وما أدراك ما الثقافة العربية في ذلك الزمان؛ لقد التقت على صفحتها خلاصة ما انتهت إليه معارف الفرس والهند واليونان، وكانت الحواضر العربية في العراق والشام ومصر -حيث تنقل أبوتمام وقضى شطرًا من عمره القصير- تحمل مشعل الحضارة الإنسانية في دورة جديدة موسومة بوسْم عربيّ فتيّ.

لأبي تمّام في نفسي مكانة خاصة لا ينافسه فيها شاعر آخر من شعرائنا القدامى؛ فعقل أبي تمّام وثَّاب جَدِل، لا يقف عند المتعارف المبذول، ولا يستسلم للشائع المعروف، يبحث في العلاقات البعيدة بين العوالم، يقلّب الظواهر بخياله، فيدهشك بطرافة ما ينتهي إليه، والغريب أنّك حين تحاول مقاربة هذا الإبداع تجد انسجامًا فذًّا بين الخيال واللغة المدقّقة المنمّقة والمعرفة العلمية، إنه يبث روحه في المعرفة واللغة جميعًا... ولقد نتج عن هذا قدر من التّعقيد لا شكّ، وأثار هذا الشعر من الخصومات ما لم تعرفه بيئات المثقفين قبل ذلك، وألّفت كتب كثيرة في الاحتجاج له وفي الاحتجاج عليه، ولقد كان الرّجل ظاهرة وسّعت الكلام في الشعر والنقد معًا.

فكيف فهم أبوتمّام الشِّعر؟ وكيف أدرك وظيفته؟

لعلّ أبا تمّام أن يكون أكثر شعرائنا القُدامى عناية بمفهوم الشّعر وانشغالًا بوظيفته، لقد سيطر على عقله مفهوم الشعر بشكل غير مسبوق، وما فتئ يقلّب فيه النظر، ويشير إلى ما انتهى إليه داخل قصائده، حتى لو كانت القصيدة خالصة للمديح أو للرثاء أو لأي من أغراض الشعر القديمة، وكأنه -إذ يفعل- يُنبّه القراء إلى مغايرة هذا الشعر لما عرفوه من قبل، ويدعوهم إلى حسن التَّأتي إليه، ومن ذلك قوله عن شِعْره:

ولكنَّـهُ صَـوْبُ العُقُـولِ إذا انْجَلتْ .... سحائِبُ منْهُ أُعْقِبَتْ بِسَحَائِبِ

(الصَّوْب: المطر.. والمعنى: فإذا انكشفت سحائب المعنى وانجلت للمتلقي، أعقبتها سحائب أخرى، كأن دلالة شعره لا نهاية لها، ومعانيه لا يحجزها فضاء).

لا يتحدث أبوتمام عن مصدر عُلويّ للشّعر على نحو ما كان القدماء يتصورون، ولكنه يحدِّثك عن العقل والثقافة وعن شعره الذي تتوالى سحائبه المثمرة، وما أدراك ما قيمة السحائب الخصيبة في بيئات قاحلة..!

لقد أدرك أبوتمام قيمة اللغة وما احتجزته للشعراء من مكانة، ولذا فهو يشُكِّلها على نحو مغاير؛ ولا يمكنك أن تعثر على صورة العقل الذي هو سحائب ممطرة في غير هذا الشعر، لقد أنزل أبوتمّام الشعر من التصورات العلوية، حيث شياطين وادي عبقر إلى مدارات العقل والثقافة والخيال، حيث يغدو الفن معرفة مثمرة.

يربط أبوتمّام –بشكل صريح- بين اللذة الجنسية والإبداع، فقدم استعارته عن القصيدة "العذراء" والقصيدة "الثيِّب"، والشاعر "الفَحْل"، وقد تكون الصورة معروفة قبله، ولكنه من قام بتشقيقها ومنحها طاقتها التصويرية الهائلة؛ فدلالات القصيدة بِكْر عذراء لم يصل إليها فَحْل من قبل، أي أنها ليست "ثيّبًا" سبق أن تداولها فحل آخر:

خُذْهَا ابنةَ الفِكْرِ المُهذَّبِ في الدُّجَى ......................

بكْرًا تُوَرِّثُ في الحياةِ وتَنْثَنِـي .... في السّلْم وهْيَ كَثِيرَةُ الأسْلابِ

فالقصيدة البكر تُزفّ إلى ممدوحها الفحل، فتعود بالمغانم المتعددة. وينتقل أبوتمّام بالصورة إلى الممدوح نفسه، فالممدوح له الضّربة البكر، ولا يغزو إلا البلاد العذراء:

انظرْ.......!

تَعْلَمْ كَمِ افْتَرَعَتْ صُدورُ رماحهِ ... وسُيُوفُه مِنْ بَلْدةٍ عَذْرَاءِ

حتى يصل إلى الربط الصريح بين ابتكار المعنى وافتراع المرأة، إنه يقول صراحة:

والشّعْرُ فَـرْجٌ لَيْست خَصِيصَتُهُ طُولَ اللَّيالِي إلا لِمُفْتَرِعِـهْ

وهذا بيت عجيب؛ أرأيت هذا الوعي الصّريح المباشر القاطع: "الشعر فرج"..؟! إنه لا يُوارب ولا يُقارب، إنه يقول لك صراحة إن الإبداع هو هذه العلاقة من التداخل والتمازج والمتعة، وكل متعة تحتاج إلى رعاية واجتهاد، وكما لا يخلو الإبداع من المتعة فكذلك لا يخلو من السّهر والجد والتّعب، فلا معنى دون معرفة، ولا معرفة دون بحث وتعمّق وتأمل.. أبوتمّام يرى القصيدة امرأة حلوة لا يسهل على العابرين إتيانها.

لا يمكنك أن تعزل هذه الصورة السابقة عن السّياق الثقافيّ والاجتماعيّ العام، فروح المنافسة بين الشّعراء قوية، وتبادل الاتهام بالسّرقة مشرع في وجه الجميع؛ فالمعنى لا بد أن يكون خالص الانتساب إلى أبيه، كما يؤكد النقاد الذين جعلوا سرقة المعاني بابًا ثابتًا في كُتب النقد القديم، كما لا يمكنك أن تعزلها عن اتّهام الممدوحين للشّعراء بأنهم يقدمون القصيدة الواحدة لأكثر من ممدوح طمعًا في العطاء من أكثر من جهة، لا يجب أن تفصل هذه الصورة عن رغبة الشّاعر في دفع هذا الاتّهام، وكأنه يريد أن يقول: إذا كان غيره يفعل ذلك، فإن شعره يأباه ويرفضه.

إعلان