إعلان

بلاغة البوست

د. محمد عبد الباسط عيد

بلاغة البوست

د. محمد عبد الباسط عيد
09:14 م الجمعة 15 مايو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

مع البلاغيين الجُدد لم تعد البلاغة وقفًا على النصوص الجمالية فحسب، وإنما أصبحت علمًا شاملا، يتسع لكل أشكال القول وكل الخطابات، فهي تتحدث عن بلاغة القصيدة بالقدر نفسه الذي تتحدث عن بلاغة المقال وبلاغة المشهد الدراميّ وبلاغة البوست "The Post".

والــ"بوست" شكل كتابيّ جديد، وقد يراه البعض مجرد مقال قصير. والحقيقة أن البوست فيه بعض سمات المقال، وفيه ما يجعله مغايرا للمقال في الوقت نفسه، ومن الصعب أن نقدم له تعريفًا جامعًا مانعًا، ولكن هذا لا يمنعنا من البحث في سماته المائزة.

"البوست" وجد مع وسائل التواصل الاجتماعيّ، ومع الفيس بوك تحديدًا، ويتسم بالقصر غالبًا، ولا يتقيد بموضوع محدد؛ فموضوعه متعدد متنوع، يتناول الشّأن العام: السِّياسيّ والاجتماعيّ والدينيّ.. بالقدر نفسه الذي يتسع للحدث الشخصيّ، وسوانح الأفكار وومضات العقول ويوميّات المدوّن وخواطره حول أغنية معينة استمع إليها اليوم وهو يتناول الفيشار..!!

ولك أن تعتبر "البوست" جدارية كونية هائلة، تتسع لكل الناس، يدوّن عليها (صاحب الحساب أو "البروفايل") أيّ شيء، يُسجّل رأيه في عظيم الأمور، وفي أقلّها أهمية، إنه يكتب ويشارك أصدقاءه ما يكتب، طبقًا لأحواله المختلفة، وفي أيّ وقت، ليلًا أو نهارًا، لا يستأذن أحدًا، ولا ينتظر موافقة رئيس التحرير، أو صدور الجريدة أو المطبوعة، ولا يرتبط بمساحة محددة. البوست موضوعي وذاتي، حيّ طازج، عابر، يومض ليتلاشى، ولا يعاود الظهور مرة أخرى إلا إذا قام أحد ما بتحديثه وتنشيطه.

لقد أحدثت المقالة في القرن الماضي نقلة واسعة في استخدام اللغة، ولكنها ظلت محافظة على مستوى محدد من اللغة الرسميّة، لغة المؤسَّسة المعتمَدة، وليس مسموحًا بالخطأ في استخدامها، واحتفظت الجرائد بوظائف أساسيّة للمراجعين اللغويين، وهذا ما تجاوزه البوست؛ فلغته هي لغة كاتبه، وهي صحيحة بقدر ما يتقن الكاتب الصّحة اللغوية، وقد يتخلى تمامًا عن الفصاحة ويكتب البوست كلّه باللغة المحلّية أو يزاوج بينهما، وقد يتجاوز هذا وذاك إلى خليط من الرموز واللغات يتفق عليها هو ومن يتابعه.

يتسم البوست بالقِصَر والوضوح، والقصر غير الكثافة. القصر يتناسب مع مساحة العرض على شاشة الموبايل أو شاشة اللاب توب، وكلما كان البوست بمقدار مساحة الشاشة دون حاجة إلى الانتقال إلى مساحة تالية كان أنسب، والمدوّن يدرك أن البوست يحظى بمشاهدة أعلى حين يكون قصيرًا.

لا تتكون بنية البوست من مقدّمة وموضوع ونتيجة، كما رأينا في المقال، فالبوست لا يعرف المقدمات، ولا يُمهّد لنفسه في الغالب، إنه يدخل إلى موضوعه مباشرة، فهو في الغالب منشغل بالحدث العام المهيمن على فضاء التواصل، ويختلف الحدث من حيث أهميته ويتدرج صاعدًا من حدث يشغل فئة بعينها، كالأطباء أو أساتذة الجامعة مثلا، إلى حدث أوسع أو مناسبة أعمّ مثل رؤية هلال شهر رمضان أو أعياد الربيع حتى يصل إلى "التريند"... ولذا فهو ليس في حاجة إلى تمهيد، وإلى ذكر تفاصيل كثيرة يعرفها مجموع القرّاء/المتابعين الذين صاروا مع الفيس بوك كتابًا أيضًا. وهذا ما جعل البوست نصًّا بلا مقدمات ظاهرة، فمقدماته مضمرة لدى المدوِّن والمُتابِع معًا، ولذا فهو يدخل مباشرة في موضوعه، ويقدم وجهة نظره، في أقلّ مساحة ممكنة، وبأوضح لغة يمكن لمتابعيه أن يدركوا المقصود من أوّل قراءة.

قد يختلف هذا التوصيف قليلًا أو كثيرًا، فقد يضطر المُدوِّن إلى وضع مقدمة للبوست إذا كان الموضوع بعيدًا قليلا عن اهتماماته التي يعرفها المتابعون، ولكن هذا التقديم لا يطول، فسريعًا ما يدخل إلى موضوعه، وهنا نكون أقرب إلى شكل المقال القصير.

البوست إذن موضوع، وغالبًا ما يفارق الموضوع ويغدو مجرد خلاصة مكثفة أضمرت مقدماتها التي يعرفها المتابعون، ولم يعد المدوّن ولا المتابعون في حاجة إلى إعادتها، فإعادتها من فضول الكلام ليس أكثر، وهي لا تتناسب مع حاجة الإنسان الذي ينظر في شاشة التليفون، ويفضل أن يرى موضوعه مرة واحدة، تمامًا كما يرى الصورة مرة واحدة ولا يحتاج إلى تقليب الصفحات، وهذه هي مساحة البوست المثاليّ.

لقد أعاد البوست بحيوته وطزاجته تشكيل العلاقة بين (القارئ) و(الكاتب)، ولعلّ من الأدق هنا أن نستخدم مفردتيّ (المدوّن) و(المتابعين)؛ فنحن لسنا إزاء كاتب بالمفهوم التقليديّ، ولسنا إزاء قرّاء بالمفهوم التقليدي أيضًا؛ فالاثنان يملكان حسابًا على فيس بوك، والكاتب يدوِّن ويتابع، بالقدر نفسه الذي يغدو به المتابع كاتبًا ومدونًا، فالوجود هنا على قاعدة المساواة، فنحن هنا أقرب ما نكون إلى صورة "المائدة المستديرة" التي يشغل فيها الجميع مواقع متساوية، ويتسع فيها المكان والزمان لمداخلات المتابعين، بالقدر نفسه الذي اتسع لمداخلة المدوّن، وهذه العلاقة الجديدة غير مسبوقة تاريخيًّا؛ فلم تعد الرسالة تسير بشكل رأسي من الكاتب إلى القارئ، كما كان الحال مع المقال الذي تناسبه صورة "المنصّة" أو "المنبر"، وإنما أصبحت علاقة أفقية تبادلية، حيث يغدو المرسِل متلقيًا، والمتلقي مُرْسِلًا.

لقد صار البوست - بهذه العلاقة الجديدة - موضوعًا لتفاعلات مستمرة لا تتوقف، ويمكنك بعد أن تقرأ "بوستا" لا تتجاوز كلماته مئتي كلمة، وما يعقبه من تعليقات متباينة المراجع والتوجهات أن تخرج بتصوّر عن الموضوع يشبه شبكة العنكبوت، وكأن البوست نفسه تجسيد حَيٌّ لمفهوم الإنترنت، أو كأنه الخلية الحيّة التي تضم كل الصفات الوراثية للجسد كله.

بالتأكيد يمكنك أن تعتبر "البوست" أحد ثمار عالم ما بعد الحداثة، حيث الأفكار التي يتم تفكيكها لحظة الانتهاء منها، أو يتم البناء فوقها... فنحن نتابع تعليقات التأييد بالقدر نفسه الذي نتابع تعليقات النقض والمعارضة وأحيانًا السخرية.

وهذه المرونة تجلعنا ننظر إلى الأداة ( الفيس بوك) في ذاتها، فهي تختلف جذريا عن الصّحيفة، فالفيس بوك أداة حيّة، وليست صامتة، إنها توفر للمودّن فرصًا كثيرة للتعديل والتنقيح، وتمنح المتابع أشكالًا عدّة من التفاعلات المختلفة، بداية بالإعجاب بأصبع الإبهام الذي هو استعارة تداولية خارجية، مرورًا بعلامة القلب الأحمر الذي يشير إلى درجة أعلى من التوافق، وانتهاء بأيقونتي الوجه: أحزنني وأغضبني، وتؤديان هنا دلالتين مختلفتين، فقد تؤديان إلى التوافق وتؤديان إلى الاعتراض حسب سياق الكلام.

وأخيرًا، يمكن مقاربة البوست طبقًا لتقسيمات البلاغة الجديدة: الموضوع "اللوجوس" و"الإيتوس" (صورة المدوّن) والباتوس (نقل السامع من موقف إلى آخر) وهذا كله يحتاج كلامًا آخر شديد الاتّساع.

إعلان