إعلان

مصباح "أديسون" وتحولات الليل ..

د.هشام عطية عبد المقصود

مصباح "أديسون" وتحولات الليل ..

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 25 نوفمبر 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

عاش قراء الصحف إبان عقود من سنوات مضت أن يعرفوا ويطالعوا بابًا له عنوان جذاب ومدهش يتسق مع زمانه وطبيعة بشر عصره هو: "أين تذهب هذا المساء؟" وهكذا تصدى وانفرد هذا الباب الصحفي في الصحف اليومية التي يطالعها الناس نهارا بأن يحدد لهم سبل تسرية الوقت مساء، فيقدم لهم اختيارات عن أماكن للسهر وتمضية الوقت، بعضها كان يقدم ما تضمه دور السينما حينما كانت الوسيلة الوحيدة لرؤية ومشاهدة الأفلام السينمائية، وبعيدا عما جاد به العصر الحديث من الرؤية والمشاهدة من الوضع جالسا في المنزل حسب الطلب ووفق المزاج، وبعضها يضم توقيتات عروض وندوات ومنتديات ثقافية مسائية أو عروض مسرحية يوصي بها الباب الصحفى تقديرا من كاتبه لأهميتها أو حرصا منه على ترويجها.

وعموما فقد كانت عبارة "أين تذهب هذا المساء؟" سؤالا وتعبيرا متداولا إعلاميا انتقل أيضا إلى شاشة التليفزيون ليكون بعد ذلك "ماذا تشاهد هذا المساء؟" تقدمه المذيعة عرضا للبرامج للمشاهدين، وذلك حين كان التليفزيون "أبو زراير" سائدا وكان الريموت أعزّك الله لم يعد بعد فى الإمكان، وكان من مهمة الأبناء الصغار هي المشي ذهابا وإيابا من موضع الجلسة نحو التليفزيون والعودة لتحويل قرص التليفزيون بين قناتين وحيدتين.

ولما كان المساء قد تحول في الأزمنة الحديثة إلى بعض من نهار أو امتداد له تشكله الأضواء الكهربائية، فقد اختلف شكله عما اعتادت عليه البشرية قرونا وقد اختلف معه أيضا سلوك البشر وعاداتهم في التعامل مع الليل وتطويع ظلامه، ليكون مجالا للسعي والعمل وغير ذلك من تصاريف البشر وفق ما يهوى وما تقتضيه المعايش والشئون.

يقول لنا ذلك شيئا مهما وهو كيف استطاع إنسان واحد هو المعروف فى كشف العلوم بتوماس أديسون أن يغير الحياة البشرية ويضفي عليها قطيعة كاملة عما كان قبلها وعما مضى به البشر آلاف الآلاف من السنوات، وكيف تطور ما كان وقتها مجرد مصباح كهربائي بسيط يطلق ضوءا خافتا ليتحول بعد ذلك إلى ما يشبه ويوازي ضوء النار، لم يكن ما فعله منتميا إلى ما اعتاد الناس أن يخشوه ويترقبوه من فعل السحر والتمائم بل هو تجلى القريحة الإنسانية إذ تفكر فتتدبر.

ومع اختراع الكهرباء ظهر مع الوقت ما يمكن أن أطلق عليه ظاهرة الصوبة البشرية، والتي تعنى أن المساء قد صار مجالا للكائنات البشرية النهارية الطابع تعيش فيه تعمل وتلهو وتحكي وتسهر ما شاء لها مقتضياتها وطلباتها فى ظل ضوء الصوبة الكهربائية التى تحاكي ضوء النهار.

وهكذا صارت الأجيال تألف وتعتاد العيش في صوب الليل الصناعية المضاءة كهربائيا فى كل مكان بعد اختراع السيد أديسون، وربما يكون ذلك أكبر وأهم تغيير جوهري وحقيقي وحاسم في تاريخ البشر والبشرية وفي تاريخ تغير العادات والطبائع والثقافات والسلوكيات، والذي صار ينمو ليستقر ويشكل جزءا محوريا من ثقافة العيش تحت مظلة صوبة الأضواء الصناعية التي حولت ظلمة الليل "الطبيعية" إلى مايشبه نهارا ممتدا لاينتهى إلا بفعل إطفاء الأنوار.

ولقد تغير تبعا لذلك إيقاعات الساعة البيولوجية للبشر، أى أنه حدث تغيير فى نظام الـ "settings" البشري فيما يخص عناصر الصحو واليقظة، فقد أدت ظاهرة الصوبة المضاءة بيوتا وشوارع وأمكنة إلى اللعب في الإعدادات البشرية مزاجا وسلوكا لتحولها عن طابعها الفطري ونمطها المستقر ال "default" لتنشأ كل تلك الحياة الليلية لتستمر وتستقر حتى لتكاد توشك حياة الصوبة الليلية لدى البعض أن تكون هي مقتضى الحال.

ويكاد ما عرفه العالم منذ اختراع الكهرباء ودخولها حيز الاستخدام العام المنزلي أن يكون انقطاعا عن سيرة ومعايش الإنسان فيما هو قبل ذلك، لقد أطال من عمر النهار كثيرا واقتطع من فضاء الليل كثيرا أيضا، وجعل حيز المنام يفقد بعضا من سيرته الأولى وخيالاته وأساطيره، وربما يراجع البعض أثرا من بعض المساءات القديمة فيما دونته الكتب والروايات والأشعار وحكايات الرحالة لنعرف كيف سار البشر القديمة تحت ضوء شعاعاتها يستظلون وبها يهتدون .. وتلك قصة أخرى.

إعلان

إعلان

إعلان