إعلان

مشاهد من مسيرة "محمود عوض" في ليالي القاهرة

08:09 م الثلاثاء 27 ديسمبر 2016

محمود عوض فى الاخبار

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتب- أحمد الليثي ويسرا سلامة ومحمد مهدي:

القاهرة في الستينيات، تحديدًا 1962، عصر الاشتراكية. قيادات الجيش على رأس الحُكم، مصر منشغله بدورها العربي والإقليمي، أنور السادات يوقع اتفاقية تعاون عسكري مع اليمن، رواية جديدة للأديب نجيب محفوظ تثير ضجة في الأنحاء. ما اسمها؟ "أولاد حارتنا"، محمد حسنين هيكل يطرح أفكاره في كتابه "ما الذي جرى في سوريا؟"، الشوارع ممتلئة بأفيشات فيلم "الزوجة 13" لشادية ورشدي أباظة، الست-أم كلثوم- تستعين بالملحن النابغة بليغ حمدي لاستكمال أغنية "أنساك"، فريق الأهلي يفوز على غريمه الزمالك مرتين بمسابقة الدوري.

الشيخ "محمد صديق المنشاوي" يخرج على شاشة التلفزيون مرتبكًا أثناء قراءة سورة "الشعراء"، شركة النصر لصناعة السيارات تنشر إعلان بفتح باب الحجز للسيارة نصر 1300 ونصر 2300. السعر 700 جنيها، دفتر الوفيات مُزيل بنعي للضابط صلاح سالم. أسعار اللحوم لا تتجاوز الـ 50 قرشا، حيث كان يمكن للشاب العشريني "محمود عوض" الذي يتحرك في شوارع العاصمة قادمًا من طلخا- الدقهلية، أن يشتري أكثر من 40 كيلو لحمة من النوع الفاخر، بذلك المبلغ الذي كان يتحسسه بين الحين والآخر في جيبه، خلال بحثه عن منزل يسكن فيه بمنطقة شبرا. يقول شقيقه "طه": "كانت نقطة البداية ليه، وبالصدفة كان صاحب البيت والد بليغ حمدي".

1

ليالي القاهرة الأولى

في ليلته الأولى بمستقره الجديد، نظّم "عوض" غرفته، اطمئن على وضع كُتبه بجوار الفراش، أرخى ستار النافذة، ألقى نظره باسمة على المبلغ الذي يملكه "الفلوس دي ليها حكاية"، كان في صباه مولعا بالأدب والكتابة "نفسه يطلع مصطفى أمين"، يقرأ بنهم شديد، يبحث عن المعلومة هنا وهناك، يتقن اللغة الانجليزية، يمشي بخطى ثابتة في دراسته، غير أنه رسب بأحد المواد بالصف الثاني الإعدادي "جاب كحكة في الرياضة" يحكي طه، حزن الأب، لم يكن يتوقع أن يتلّف أمله في ابنه المُقرب إلى قلبه، فأصر الصبي على إزاحة تلك الواقعة عن مسيرته، انهمك في المذاكرة، أنهى امتحاناته بشكل جيد، ليحصل على المركز الأول على مستوى المحافظة "الوزير كرمه وإداله شيك بـ 20 جنيه فِضل معاه لحد ما نِزل القاهرة".

التأقلم بسرعة، كان سلاح الشاب في زحام وضجيج العاصمة، تجربة الحياة بمفردة قاسية، خاصة أنه كان محبوبًا من والديه، لا يفارقهما، يُقدر قيمة العائلة، ورغم كونه الابن الثالث وسط 7 أطفال، إلا أن الأسرة اعتبرته "الجوكر"-وفق تعبيره شقيقه- يقضي حوائجهم، يلجأ الجميع إليه في الشدة لينصحهم ويخفف عنهم، قبل أن يحل مكان الأب بعد أن توفى وهو لايزال في الثانوية العامة، الأمر الذي أثر فيه بشكل كبير.


الانطلاقة.. مصر بالطول والعرض

انتظم "عوض" في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، لكنه سرعان ما انطلق إلى وجهته الأهم لتحقيق حلمه بالعمل في الصحافة، حصل على فرصة للعمل كمحرر اقتصادي في مؤسسة "أخبار اليوم"، مقابل 20 جنيهًا شهريًا، لم يُفلت الشاب تلك المِنحة، تابع مشروعات التجربة الناصرية، قدم ملفا مميزا عن السد العالي، يذكر شقيقه "تابع مصر بالطول والعرض"، وصل إلى صناع القرار، وفي عام 1965 انتقل من الاقتصاد إلى قسم الدراسات الشخصية، بدأ يكتب عن النوابغ، فيما ظهر في مطبوعة دار المعارف بعدها بكتاب "شخصيات"، ثم خاض تجربته في عالم التحليل وكتابة الرأي، فيما استعان به إحسان عبد القدوس لكي يكتب مقال في نفس مساحة الكاتب أنيس منصور، ليس كنوع من العقاب لتأخر منصور على إرسال مقاله فحسب، لكن لإيمانه بموهبة عوض المبكرة، ليراود عوض القلق "أنا هكتب مكان أنيس إزاي؟".

يمين-الصورة-الكاتب-محمود-عوض-اثناء-تغطيته-لافتتاح-الدكتور-حاتم-لمصنع-الاسطوانات-1962

انفراد يقود للسجن

داخل صالة التحرير بمؤسسة أخبار اليوم، وقف مصطفى أمين أمام الصحفيين مُعلنًا عن مكافأة 5 جنيهات لمن يجلب انفراد صحفيًا، وكان "عوض" ينتزع تلك الجنيهات يوميًا، ومن عادة مؤسس الجريدة أن يحتفظ بأسماء المتميزين على ورقة صغيرة يضعها في جيب بدلته، وفي الأول من يوليو قُبض عليه بتهمة التجسس، وحين عثرت قوات الأمن على الورقة المدون فيه اسم "عوض" اقتادوه إلى جهات التحقيق ليمضي 3 أشهر في السجن دون أن يعرف تهمته.

3

صداقة الفنانين

صار نجم "عوض" لامعا في الصحافة والحياة، يجالس كبار المسئولين، تطلبه كوكبة من الفنانين كرفيق لهم لا مجرد صحفي؛ تطلب أم كلثوم من بليغ حمدي ألا يحضر للبروفة دون الصحفي الموهوب، ويرجوه عبد الوهاب وعبد الحليم أن يكون بصحبتهم في الأسفار للخارج، أضحت موهبته مسيطرة على الأجواء، يبجله الجمع، فيما لم ينشغل قلمه عن هموم الشارع ومسئوليات الوطن العربي ومستقبله..

كانت صداقاته في الوسط الفني حقيقية، مبنية على الثقة والود بين الطرفين، تشهد عليها مواقف عدة من بينها تلك المرة التي شكت فيها وردة لزوجها بليغ حمدي من وجود زوار في منزلها يوميًا قبل أن تنبه إلى أن حديثها لا يشمل شخصًا واحدا "محمود عوض الوحيد اللي ييجي في أي وقت هو عايزه". الأمر نفسه تكرر مع الملحن محمد الموجي، كان عندما يحتاج إلى التركيز في لحن جديد يستعصي عليه، يُمسك بعوده وحقيبة صغيرة، منطلقًا إلى إحدى الفنادق الخاصة، تاركا رقم الغرفة بين يدي زوجته، لكنه يحذرها من إخبار الأصدقاء "متدهوش لأي مخلوق إلا عوض وبس".

سُلفة من حليم

ذات يوم في عام 1974، علم "عوض" أن الدفعة الأولى من سيارات نصر للسيارات 128 وصلت إلى النقابة، وكان عليه أن يسرع بحجز واحدة لنفسه لكنه لم يكن يملك أية نقود حينذاك، فكر للحظات قبل أن ينطلق إلى منزل "العندليب"، اقتحم غرفة "المزيكاتية"، وجد المغني مندمجا مع فرقته، قاطعه "عايز فلوس" دون أن يُفسر سر الطلب المفاجئ، ولم يطلب عبدالحليم أن يعرف، قام بتحضير المبلغ المطلوب لصديقه الصحفي "3 آلاف جنيه" الذي غادر سريعًا المكان. بعد ساعات قليلة حضر الأخير أسفل المنزل مُحدثًا ضجيجا بـ "كلاكس" سيارته الجديدة "أول ما عبدالحليم بص عليه.. قاله أنا خدت الفلوس عشان العربية".

يرى الكاتب الصحفي عبدالله السناوي. أن السبب الرئيسي في عزوف "عوض" عن استكمال الكتابة عن الفنانين كان كبريائه الصحفي "مكنش عايز يبقى مؤرخاتي ولا يتقال عليه ناقل نميمة الوسط الفني".

ويضيف أنه ربما كان عكوفه على مشروعات التوثيق على علاقة الوطن بالعدو الإسرائيلي وتوغله في الكتابات السياسية كان سببا أخر لذلك.

4

بليغ.. رفيق التمرد

الصداقة ذاتها التي جمعته بـ"حليم"، كانت مشابهة لعلاقته بالملحن بليغ حمدي، فلم تكن صداقة محمود عوض ببليغ حمدي محض صدفة، بل جمع لشمل المتمردين؛ منّ كسر كلاسيكيات الموسيقى بألحان خلابة، ومنّ استخرج قلمه آهات المعجبين، غير أنه كان يخشى من مصير صديقه "كان شايف نفسه في بليغ.. وكان خايف من انقطاع المسيرة دون إخراج كل مخزون الإبداع"، لذا كتب لحظة وفاة رفيقه "الموت في منتصف الجملة الموسيقية" يقول السناوي "ونقدر نقول إن محمود عوض مات في منتصف الجملة الصحفية".


عقار رقم 5

في العقار رقم 5 بشارع أنس بن مالك بالجيزة كان محمود عوض يقطن شقته المطلة على النيل، رفيقته في ليالي الوحدة، الشاهد على جلسات لكبار النجوم والمفكرين، توالت عليها الأجيال من الأساتذة الرواد للتلاميذ المُحتفى بهم، لم يفكر يوما أن يتركها رغم مرور الزمن، والحكاية تعود للعام 1979 حين توسطت الفنانة شادية وعدد من نجوم المجتمع لدى صاحب العقار أن يؤجر دورين "الثالث والرابع" لأحد الصحفيين اللامعين، وكان صاحب العقار لا تفرق معه الماديات بقدر الوجاهة الاجتماعية لسكان ملكه الخاص، وما أن علم الرجل بأن الصحفي هو محمود عوض طلب أن يلتقيه، ظنوا في البداية أنه سيضع شروطا أخرى، وكانت المفاجأة أن ترجاه الرجل للسُكنة.

5


عوض.. على وشك الزواج

رغم شُهرة "عوض" ككاتب، إلا أنه لم يسلم من القيل والقال حول حياته الشخصية، تعجب البعض من عدم زواجه "مرة كان هيخطب في الإسكندرية.. قعد حبة وقالي دي بتكلمني في كماليات مش في الفِكر والمعرفة" يقولها صديقه حسين العقاد، فيما أُشيع أنه على وشك الزواج من فنانة شهيرة -ممثلة ومطربة- بعدما نشرت إحدى الصحفيات خبر بالأمر بعد رؤيتها لهما في إحدى الأماكن العامة "بس هو عُمره ما اهتم بإنه يرد على حاجة زي كدا".

6

الطقوس تبدأ بالألة الكاتبة

للرجل طقوس لا يحيد عنها، في الساعة السابعة صباحا يجلس أمام الآلة الكاتبة ليبدأ التدوين لـ 3 ساعات "قبل ما يكتب يفضل رايح جاي زي حالة الولادة" يقول شقيقه طه، وبعد انقضاء الوقت المُخصص للكتابة ينطلق إلى مكتبه في الجريدة التي يعمل بها-سواء الأخبار أو الأحرار أو اليوم السابع-يحتفظ طوال الوقت بقصاصات من الورق يكتب فيها بخط صغير لا يُمكن قرأته بسهولة "كان ممكن يكتب مقال كامل في ورقة"، يتواصل مع من يثق فيهم للوقوف على رأيهم في كتاباته، ويعشق البحث والتدقيق في كل كلمة تخرج في مقالاته. وكان من عادته ألا يستقبل اتصالات هاتفية بعد الساعة السابعة مساء، وعندما سأله الصحفي الشاب أحمد عطاالله عن السبب أجاب "الدكتور نصحني مردش في الوقت دا عشان منمش وأنا منفعل".

لم يكن عوض مكترثا بمظهره الخارجي، لا تعنية هندمة ملابسة أو تناسقها، ويقول نصر القفاص إن ذلك لم يكن بخلا أو تكاسلا "كان كل قضاياه فكرية، مش شاغل باله غير بالصحافة والوطن وبيعتبر الأناقة رفاهية".

"الزهد" هو الصفة الأبرز لشخصيته، فلم يمثل القلم بالنسبة له شقا تجاريا، بل جزء من روحه، فلم يطلب يوما مقابل مجزي كمؤلف، ولم يشترط إلا معايير مهنية لعمله، حسب إسماعيل منتصر الرئيس السابق لدار المعارف وآخر من نشر للكاتب الكبير في حياته.

7

دار المعارف.. حبل الود موصول

عبر أروقة دار المعارف، كان "عوض" يسير بخطى بطيئة، يُلقي التحية على الساعي بابتسامة تعلو وجهه متسائلا عن مكتب رئيس مجلس إدارة الدار، وأمام الأخير يضع الكاتب الكبير أوراق كتابه "أفكار ضد الرصاص" لنَشره من خلال الدار، متمنيًا أن يحظى العمل بإعجاب القراء "هو أنا اسمي يوزع بشكل كويس؟" متواضعا قالها، والإجابة جاءته من القراء عندما نفدت نحو 20 ألف نسخة في طبعته الأولى. كان ذلك في مطلع السبعينات، يقول عوض في حوار له مع جريدة العربي الناصري:"أنا ومصطفى حسين -مصمم الغلاف، رحنا نحسب عدد النسخ التي طبعت منه فصعقنا لأنها وصلت لأكثر من ربع مليون نسخة".

داخل الدار حتى الآن، لا تزال أوراق تعاقد الكاتب ومبيعات كتاباته باقية -اطلع عليها مصراوي خلال جولة بالمكان- يحصل "عوض" في السبعينيات على 100 جنيها في الكتاب تصل إلى 85 جنيه بعد خصم الضرائب، وفي الألفينات عاد إلى الدار من جديد مقابل ألف جنيه فقط، حيث تؤكد مدير التعاقدات بالدار منى خشبة أن عوض لو ذهب لأي دار أخرى لكان تقاضى مبلغا يتجاوز الخمسين ألف جنيها، لكنه يخلص لداره الأم "ممكن تدفعولي على دفعات".

8

حرص الكاتب الكبير على أن تتاح أعماله للعامة بأرقام زهيدة، فتم بيع كتابه "عبدالوهاب الذي لا يعرفه أحد" في مارس 1971 بسعر 150 مليما للنسخة، فيما بيع كتاب "شخصيات" بـ 200 مليم في 1976، وفي يناير 2007، وقع عوض على عقد "من وجع القلب" ليصل سعره 18 جنيها، وبمقابل بسيط خرج كتابه الأخير "اليوم السابع" للنور بعد وفاته بـ 9 أشهر، بجهد شقيقه "طه".

بورسعيد.. دي أخرتها

في سنواته الأخيرة وبعدما باتت العودة لأخبار اليوم شبه مستحيلة، كانت كلمات محمود عوض تتناثر في صفحات الجرائد العربية، فيما كان كثيرًا ما يظهر ببرنامج "نادي السينما" للمذيعة درية شَرف الدين، وفوجئ أثناء تجوله بشوارع محافظة بورسعيد، بأحد الأهالي ينادي على آخر "تعالى بسرعة شوف عوض اللي بيطلع مع درية شرف الدين"، شعر الكاتب الكبير بالضيق، مال على رفيقه "بقى تاريخي الصحفي كله يتلخص في برنامج.. دي أخرتها".

الرحيل في صمت

قبل المغيب بنحو ساعة، في 25 أغسطس 2009، كان رنين هاتف الصحفي خيري حسن لا ينقطع، اندفع إليه في عجالة لمعرفة المتصل، جاءه صوت الأستاذ "محتاج أروح لدكتور عظام" لفظها بوهن شديد، قلق عصف به، اتصل سريعًا بالطبيب طارق الغزالي حرب، الذي يتابع حالة "عوض"، حصل منه على موعد لزيارته بعد 48 ساعة، لم يكن يملك سوى الانتظار، وفي صباح السبت اتصل بالكاتب المريض، لكن لم يأتِ أي رد، حاول مرة ثانية دون جدوى، فزع تملك منه، هرع سريعًا إلى منزله بالجيزة، قطع طريقه من المعادي إلى هناك في سرعة جنونية، اندفع ناحية العقار، الحارس لم يرَ الصحفي الكبير منذ فترة!.

9 

هرولا تجاه الطابق الثالث، طرقا الباب بتوتر فيما يلمح خيري جرائد الجمعة والسبت أسفلهما، رجفة تسري في جسده، يتصل بالشرطة، وعيناه معلقة بالباب، أملًا في خروج "عوض" فأي لحظة، لم يحدث ذلك، وصلت قوات الأمن، اقتحمت المكان، اندفعوا داخل الشقة، توقف أحدهم فجأة صارخًا فيهم "هنا"، في غرفة النوم كان "عوض" مسجيًا على الأرض في وضع أقرب للسجود.. مات الأستاذ.

تابع باقي موضوعات الملف:

محمود عوض.. المُتمرد لوجه الله (ملف خاص)

undefined

2- محمود عوض.. الموت في منتصف الجملة الصحفية

2

3- من أم كلثوم لـ''عدوية''.. محمود عوض يكتب لمن يهواه القلب

3

4- بـ6 شخصيات.. محمود عوض يستعين بالأطفال للتمرد على الأدب

4

5- على الدَرب.. يسري فودة يروي ذكرياته مع ''الأستاذ'' محمود عوض (حوار)

5

6- كيف تصنع صحيفة جماهيرية في 3 شهور؟.. الإجابة: محمود عوض

6

7- ''وعليكم السلام''.. كيف واجه محمود عوض بارود الصهاينة بالقلم

7

8- كواليس أول تكريم للصحفيين على يد محمود عوض

8

9-  أعمال محمود عوض.. أوراق ضد النسيان (إنفو جراف)

9

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان