إعلان

من منطقة اندلاعها.. لبنانيات ينتفضن ضد بقايا الحرب الأهلية: "ما بدنا تنعاد"

07:02 م السبت 21 ديسمبر 2019

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت-شروق غنيم:
تصوير- هدى كارباج:

قبل 44 عامًا بدأت الحكاية. اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية من منطقة عين الرمانة في ضواحي العاصمة بيروت، ذاق الشعب مرارة الفقد، الشتات، استنزفتهم طيلة 15 عامًا، انتهت الحرب لكن ظلت الجروح مفتوحة، لم يطوَ الخوف، لايزال يتردد صدى ما جرى في نفس كل لبناني، يُكّر شريط الألم مع حدوث اضطرابات، ذلك ما شعرت به جنى أبي مرشد، ليل الثلاثاء 27 نوفمبر الماضي، حين عاد التوتر في المنطقة نفسها، لم تدَع الهواجس تتملّك منها، قررت تنظيم مسيرة نسائية تقف ضد أيّة احتمالية لعودة الماضي، مئات تضامن، توحدن على رغبة واحدة، ومن منطقة شرارة الحرب الأهلية، أعلنت السيدات بقوة، لن نسمح للحرب الأهلية بالعودة مرة أخرى.

ليل الثلاثاء 27 نوفمبر الماضي، تُكمل الثورة اللبنانية يومها الـ43، تمتلأ الساحات بالرفض لسياسات الدولة، الفساد، الاقتصاد المتردي، وقبلها الطائفية التي التهمت الجميع، طمأنينة شعر بها الجمع، إلا أن تلك الليلة حدثت اضطرابات في تقاطع عين الرمانة ذات الغالبية المسيحية والشياح ذات الغالبية الشيعية، مما استدعى تدخل الجيش اللبناني، كان ذلك الحدث الأول من نوعه منذ بداية الاحتاجات اللبنانية في أكتوبر الماضي.

سرت رجفة في جسد جنى حين سمعت أصوات طلقات نيران مجاورة، انقبض قلب ابنة منطقة عين الرمانة، راودتها السيناريوهات المفزعة "معقول بين يوم وليلة تتحول بلادنا وساحاتنا لحرب؟ معقول الحلم اللي كنا نحلم فيه نفقده تحت وطأة العنف وبسبب هيدا الاحتقان؟"، أخرجت هاتفها المحمول، أرسلت إلى صديقاتها "بنعمل بنكون في الشارع ومش بعد بكرة حتى ما يمرق وقت على هالعنف، راح نعمل مسيرة نسائية تنبذ الطائفية ونقف ضد كل اللي عم يرجعنا للوراء".

تلقفت صديقات جنى الدعوة سريعًا، ساعات قليلة وانتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، تحمست نساء تقاطع عين الرمانة- الشياح للمسيرة، عزمن على المشاركة، وتولين مسئولية تنظيم اليوم فيما لم تخلُ أيضًا المسيرة من بعض الرجال لكن "أنا وجهتها للنساء وكان هن المتقدمات في المسيرة، لإن النساء هن الحضن اللي بيعرف يحمي ويحب وبيعرف يدير ويتشارك، وبشجعاتهن وجرأتهن أعلنوا عن تطلعاتهن كيف بيشوفوا الحلم وكيف بيشوفوا بلادهن".

1

نهار الأربعاء كان مختلفًا عن الليلة التي سبقته، الألم ينزوي قليلًا والأمل يفرض نفسه، من عين الرمانة بدأت المسيرة، خمس سيدات في الشارع استعدادًا للتجول في المنطقة وصولًا إلى الشيّاح، وكلما تتقدم جنى خطوة برفقتهن تذوب مخاوفها، يكثر عدد المشاركات، وتزداد ضربات قلبها سعادة، شعرت نساء المنطقة بلحظة انتصار حين عبرن طريق صيدا القديم، وتلاقت كل الاختلافات الطائفية بالوِد "صار النسوان يحكوا مع بعض نحن أهل وجيران، نحن عايشين مع بعضنا، حياتنا وولادنا، بنشرب قهوة سوا، بنشتري أغراضنا سوا، وجعنا وجع واحد، فقرنا واحد، ومطالبنا واحدة.. ما بدنا حرب".

في لحظات معدودة انهمرت الانفعالات، سكبت كل امرأة مشاعرها " كان في كمية حب ترجمت بالحكي، بالبكي والضحك والدموع، بالرز اللي انرش وبالورود"، رفعن سويًا لافتات تنبذ الطائفية والحرب "دعونا نبني سلامنا، فلقد دفعنا ثمن حروبكم". كان المشهد مؤثرًا بالنسبة للسيدة اللبنانية، كيف تجاوبت النساء مع المسيرة "في اللي نزلوا بتياب البيت، نساء تحدوا رجالهن ونزلوا، ونساء كبار في العمر بيجروا حالهن جر بس بدهن يكونوا موجودين بهيدا المحل وهيدي الوقفة، ما راح نسمح لولادنا وأهلنا يروحوا ضحية حرب مرة تانية".

تسير السيدات بينما لا تفارقهن الزهور والشموع والأرز، رمز بلادهن، تتعالى الهتافات من نفس المكان الذي حمل المتاريس وخطوط التماس أيام الحرب "ما أغلى من الولد إلا توحيد البلد.. من الرمانة للشيّاح شعب واحد ما بيرتاح.. مش محاور مش متراس الشارع لكل الناس". من النوافذ علت الرؤوس تتابع ما يجري، تقشعر الأبدان ويتجلّى الحلم "ما بدنا الموت، نحن نستاهل الحياة، ونستاهل نعيش في سلام".
لطالما ترددت تلك العبارات على أذن هدى كارباج، لكنها لم تؤمن قط بالشعارات وهي التي قضت طفولتها تحت سماء الحرب الأهلية اللبنانية والأجواء المرعبة غير أن مسيرة "الشياح-عين الرمانة" بعثت بداخلها شيئًا مختلفًا "لأول مرة يكون في فعل حقيقي بيرفض الحرب".

3

منحت الثورة الشعب اللبناني القوة للوقوف ضد سنوات من العنف، في الـ16 من أكتوبر انتفض الشعب اللبناني رفضًا لزيادة الضرائب، لكن سرعان ما تحولت دفة التظاهرات لعناوين أكثر شمولية ومنها إنهاء التناحر والطائفية في بلاد الأرز، تُعيد هدى الفضل بتنظيم المسيرة إلى الثورة التي أنهت كل الفوارق الدينية والاجتماعية التي لطالما وقفت حاجزًا بين شعب واحد "نزلت السيدات اللي عاملة كل وجهها بوتوكس لأكبر حاجة كبيرة بالسن، كلوا نزل واتلاقى مهما كانت الاختلافات الطائفية والاجتماعية كرمال يطالبوا بدولة مدنية".

حركت المسيرة الكثير من المشاعر، ذكرت أهل لبنان بوجع لم يزل بعد، لكنها أحيت الأمل بداخلهم، لذا ألهمت سيدات منطقة "الخندق-التباريس" التي عانت من الصراع الطائفي خلال الحرب الأهلية بتكرار التجربة، وتلقف الدعوة نفسها عقب يومين فقط من إجراؤها، يتجولن سويًا في نفس المنطقة، يزحزحن من ذاكرتهن حقبة صعبة، ويبدلن بالمشاهد العصيبة، لحظات دافئة، لم تفوّت هدى الأمر، توجهت إلى المنطقة شاركت النساء فعلهن، تلتقط صورًا وتوثق ما يجري، صارت السيدة الأربعينية شاهدة على مسيرتين خمدن نيران التوترات.

4

كان المشهد مهيبًا حين انطلقت التظاهرة من جهة التباريس بالأشرفية بنساء تحمل ورود وإيمان بالسلام، فيما قابلتهن تظاهرة نسائية مماثلة من جهة الخندق الغميق، بكاء وأحضان أخذت السيدات تعبر عن مخاوفهن دون خجل "خدنا بعضنا وتوجهنا بالمسيرة إلى الخندق"، وعندما وصلوا إلى المكان واجهتهن الأزمة، كاد الأمل أن يتلاشى.

وقف شباب منطقة الخندق أمام التظاهرة، منعن السيدات من المرور "قولنالهم كيف ممكن يإذيكم مسيرة نسوان وأمهات؟"، حتى نزلت امرأة من الخندق تحدثت مع الشباب "وصارت تتشاور معهم، وبعد شوي فتحولنا الطريق وبرمنا بالخندق". تحتبس الدموع في عيون هدى، تجتاحها مشاعر لا توصف "هيدي المنطقتين ما كان حدا يقدر يفوت على التانية ولو ده حصل بتكون كارثة، في هديك اللحظة كنت مؤمنة، نحن نقدر ما نعيدها للحرب مرة تانية".

لم تُمحَ الحرب الأهلية من مخيلة هدى ولو لمرة، لاتزال تشعر بالخوف كما لو أنها لا تزال ابنة التاسعة من عمرها، تسمع أصوات النيران، تضطر للنزول أسفل الطاولة رعبًا، أو تهرول إلى الملجأ للاختباء، انقباض قلبها حين يتأخر والدها عن الرجوع للمنزل "صار عندي أربعين سنة وما نسيت، صوت الرعد بيوترني، ما بطيق اسمع صوته، بيذكرني بإن الماضي لساته عايش جوايا".

لذا لم يكن بُدًا من الثورة، وحين قامت كانت هدى في الساحات من اللحظة الأولى، تعانق أفكار الثورة أحلامها، تتبلور الحقيقة أمامها بأن الحرية هي المبتغى لكسر كل الخوف الذي تراكم بداخلها "للفساد اللي تعبنا سنين طوال، للخوف والفقر اللي عيشونا فيه، وللنظام الطائفي اللي خلانا نعيش منقسمين في نفس البلد"، لم يعد صوتها وحده الذي يطالب بذلك، بل حشد من البشر مثلها "بدنا نعيش تحت سقف قانون واحد".

قرابة شهرين مضوا على بدء الثورة اللبنانية، ولم يصل الشعب لمطالبه بعد، لكن اليأس أبدًا ما أصاب نفس هدى "ماراح نترك البلد لهالطريق"، غيّر المحتجون من طريقتهم في الرفض "بالعصيان المدني وتسكير الطرقات، نعم نجرب نقتحم القصص ونطلع ملفات الفساد، الشعب اللبناني عم يشتغل عنجد من كل قلبه، بنسائه وطلابه، مشواره كتير طويل. ثورة كتير طويلة لإننا مش طرفين بيثوروا ع التاني، لكن عدة أطراف عم تثور على عدة أطراف".

5

لم تعد هناك فرصة للرجوع عن الثورة، تؤمن جنى بأنها الخلاص الأكبر من كل الماضي الذي عذّب الشعب اللبناني، يصير صوتها وسع المدى مطالبًا بحياة سالمة دون نزاعات، دون فساد وتمييز، فتُسجل مشاعرها في تسجيل صوتي ليعيش للأجيال القادمة إذا حان موعد غروبها مع الحياة، فيما تعلم هدى بأن الأمر يحتاج إلى وقت "الثورة لو اتنفذت مظبوط بتكون الحل لتشيلنا من هالأسى وتلغي أخيرًا من ذاكرتنا رواسب هالحرب الأهلية"، تمني نفسها بأنها على الأقل ستكون قدمت للأجيال حياة جديدة، أما بالنسبة فيكفيها المشاعر التي راودتها خلال مشاركتها في التظاهرات "أكتر شي حلو بحيات حصل، أحلى من نهار عرسي وزفافي، أحلى من كل شي عشته في حياتي هي هيدا الثورة".

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان