إعلان

فن الحرب

د. جمال عبدالجواد

فن الحرب

د. جمال عبد الجواد
09:01 م الخميس 02 يناير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

هذا هو الكتاب الأقدم في فنون واستراتيجيات الحرب في التاريخ الإنساني. ألف هذا الكتاب القائد العسكري الصيني "صن تزو"، في القرن الخامس قبل الميلاد، قبل أن تتحول العربية إلى لغة مكتوبة بألف عام. تمت ترجمة الكتاب لأول مرة إلى لغة غربية في عام 1772، عندما تمت ترجمته إلى الفرنسية على يد "جان جوزيف ماري أميوت"، أحد الآباء الجزويت، فكان الكتاب نموذجًا لما ترجمه رجال الدين الغربيين إلى شعوبهم، وما قدموه لثقافة بلادهم، فماذا ترجم رجال الدين عندنا إلى اللغة العربية!

يكفينا هذا القدر من المقارنات المثيرة للشجون والأسى، ولننظر في سيرة القائد العسكري والمفكر الصيني "صن تزو". كتب القائد "تزو" هذا الكتاب تنفيذًا لأمر حاكم مملكة "وو"، بعد أن اقتنع بقدرات القائد "تزو"، وهي المكانة التي لم ينلها القائد الشهير إلا بعد اجتياز اختبارات حقيقية.

كانت أخبار المحارب "تزو" قد وصلت إلى مسامع الملك، فأراد اختبار هذه الأنباء بنفسه قبل أن يضع ثقته في مقاتل مغمور. قدم الملك 360 من محظياته إلى "تزو"، وطلب منه تدريبهن؛ ليصنع منهن كتيبة من المقاتلات. نظم "صن تزو" محظيات الملك في فرقتين، إحداها في الميمنة، والأخرى في الميسرة، ووضع على رأس كل منها أجمل المجندات وأكثرهن قربًا لقلب الملك. لقن القائد "تزو" المجندات الجدد طريقة التحرك العسكري في صفوف في الاتجاهات المختلفة، إلى اليمين واليسار، وإلى الأمام والخلف. انتهى

"صن تزو" من تلقين النساء المجندات، وانتقل إلى مرحلة تدريبهن على تنفيذ ما لقنهن إياه، فكان كلما قال لهن أمرًا أصابتهن نوبة ضحك طويلة. أعاد القائد "تزو" تدريب النساء، قبل أن يلقى عليهن الأوامر نفسها مرة أخرى، لكنهن عدن للضحك ثانية. انهار النظام في جيش النساء، وأصبحت قيادة "صن تزو" على المحك، وبدا كما لو كان محكومًا عليه بالفشل في تنفيذ المهمة التي كلفه بها الملك.

كان على القائد المحنك إنقاذ جيشه وسمعته وتنفيذ مهمته، فأمر بإعدام المرأتين المسؤولتين عن قيادة فرقتي اليمين واليسار. اعترض الملك على إعدام الفتاتين المحببتين إليه، إلا أن القائد "تزو" رفض الانصياع لاعتراض الملك، قائلاً: إن القائد، بمجرد تعيينه في منصبه، يصبح هو المسؤول الوحيد عن تنفيذ المهمة الموكلة إليه، بأي طريقة يراها، حتى لو كان للملك رأي آخر؛ وأنه بإمكان الملك إقالة القائد وإعفاؤه من مسؤولياته، لكن ليس بإمكانه التدخل في طريقة إدارته للأمور ما دام استمر موضعًا لثقته. تقبل الملك منطق القائد "صن تزو"، وتم إعدام المحظيتين الجميلتين، وساد الانضباط بين النساء المحاربات، وتحولن إلى أول فرقة نساء مقاتلة في التاريخ.

لكتاب "فن الحرب" شعبية كبيرة بين العسكريين والسياسيين والمديرين ورجال الأعمال، وللدرس الذي قدمه القائد "تزو" قيمة كبرى. الملك هو السلطة العليا، وله كل الحق في تعيين وإقالة معاونيه في أي وقت، وعلى معاوني الملك تنفيذ المهام المكلفين بها بكل التزام وإخلاص وأمانة وحرفية، حتى لو اقتضى ذلك معارضة الأوامر الطارئة الصادرة عن الملك نفسه؛ أما الملك فله دائما الحق في إعفاء القائد من منصبه عندما يفقد الثقة فيه، حتى لو لم يكن من حقه التدخل في طريقة تنفيذه للمهمة المطلوبة منه. لو التزم كل المديرين والمعاونين بهذا الدرس لما سمعنا أحدهم يقول: "اربط الحمار مطرح ما يعوز صاحبه"، أو "هما اللي قالولي"، أو "أنا عبدالمأمور"؛ فمن ينطق بهذه العبارات، وفقًا لتعاليم القائد "صن تزو"، هو إمعة تافه خائن للأمانة.

إعلان

إعلان

إعلان